كتب المفكر والمحلل السياسى «لبيب قمحاوى» مقالا فى جريدة «رأى اليوم» يتحدث فيه عن الإنقلاب الذى فشل فى تركيا وعن أسلوب أردوغان فى التعامل معه، وعن كيفية تعاطى العرب مع الموقف. فيقول يتعامل العرب مع ما يجرى فى تركيا بعقلية الخندقة وأحكامها ومواقفها مسبقة الصنع، وكأن ما يجرى فى تركيا هو شأن عربى أو إسلامى. إن ما يجرى فى تركيا هو شأن تركى أولا وأخيرا. ولعبة شد الحبل فى تركيا ليست أمرا مفاجئا، بل متوقعة ومتوقعة جدا وأردوغان يعلم ذلك والجيش يعلم ذلك أيضا ومعهم ربما بعض أو معظم الشعب التركى.
يعتمد أردوغان فى مساره السياسى على احتكاره للحقيقة الدينية واستعمالها لتعزيز حظوظ برنامجه السياسى من خلال استقطاب دعم وتأييد وولاء الأتراك ذوى النزعة الدينية والذين يفتقرون فى العادة إلى القدرة على التمييز بين شؤون الدين وأمور الدولة وهو أمر شائع بين أوساط العديد من البشر الذين يفتقرون إلى مستويات معقولة من التحصيل العلمى بغض النظر عن ديانتهم سواء أكانوا مسلمين أو هندوسا أو مسيحيين أو يهودا... إلخ.
ويضيف قمحاوى أن أردوغان له برنامجان سياسيان. الأول يتعلق بحزبه «حزب العدالة والتنمية»، والثانى يتعلق بأردوغان نفسه وطموحاته السياسية الشخصية. ولكن قبل الخوض فى المزيد، يجب التأكيد على أن الانقلابات العسكرية هى أمر مرفوض ولا شرعى ولا يمكن تأييده أو القبول به. ولكن استعمال التصدى للانقلاب كعذر للانقضاض على الديمقراطية هو أيضا أمر مرفوض ولا يمكن القبول به. وما يجرى الآن هو فى الواقع انقلاب عسكرى فاشل على الشرعية لا يمكن القبول به وانقلاب مدنى حزبى على الديمقراطية لا يمكن القبول به أيضا، والعرب يركضون بين هذا وذاك وكأن حياتهم متوقفة على ما يجرى فى تركيا.
إن إعادة تصميم النظام السياسى ليناسب شخصا ما بعينه وطموحاته وقدراته هو عنوان مختلف ولكنه مطابق بأوصافه للدكتاتورية التقليدية. وهكذا تصبح الشرعية الديموقراطية وسيلة للقضاء على الديمقراطية نفسها. ما يجرى الحديث عنه الآن بالتحديد هو المدى الذى سيذهب إليه أردوغان فى حربه. أردوغان لم يتصد للانقلاب بأدوات الشرعية الدستورية، بل تصدى للانقلاب بانقلاب آخر وبأدوات خارج إطار شرعية الدولة التى تم استبدالها بالشرعية الحزبية. وهذا الوضع جعل من الممكن له القيام بتصفية خصومه دون الحاجة للالتزام بالـقوانين التركية.
ولكن ما هو الأثر الحقيقى لما يجرى الآن فى تركيا؟ من الواضح أن فشل الانقلاب قد أضعف من احتمالات عودة العسكر إلى الحكم فى العديد من دول الجوار وهو أمر جيد. ولكن هذا لم يأت بلا ثمن. والثمن هو إعادة الأمل إلى التيار الإسلامى بإمكانية السيطرة على الإقليم وتشجيع التطرف الإسلامى على المضى فى مخططاته للسيطرة على بعض دول المنطقة. الإسلاميون فى صدد ارتكاب نفس الخطأ الذى ارتكبوه بعد تولى محمد مرسى رئاسة مصر، وبداية الحرب على الأسد، وصعود نجم الإسلاميين فى ليبيا واليمن وصحراء سيناء مع قطاع غزة الفلسطينى وبالطبع تركيا. الإسلاميون بشكل عام وخصوصا فى الأردن أخذتهم العزة بالإثم فى ذلك الوقت واعتقدوا ولو مخطئين بأن الخلافة الإسلامية فى طريقها إلى العودة وهو أمر لم يحدث، إن لم يكن لشىء فهو لخطأ فى قراءة خارطة موازين القوى الداخلية والإقليمية. والآن يبدو أن الإسلاميين فى طريقهم لارتكاب نفس الخطأ. فهنالك حالة من الابتهاج والهياج الصامت تتفاقم يوميا وتعكس نزعة نحو تأييد أعمى غير محدود لأردوغان وما يفعله مقترنا بالأمل بأن ذلك قد يكون بداية العودة لنفوذ الإسلاميين فى الإقليم.
***
ويؤكد قمحاوى على أن التساؤل الأهم بين أوساط الكثيرين يتعلق بتأثير ما يجرى فى تركيا على المنطقة العربية بشكل عام وعلى مستقبل الصراع فى سوريا بشكل خاص.
سلوك أردوغان الأخير يوحى برغبته فى التخلص من كل القيود التى فرضتها عليه مفاوضاته مع أوروبا، ورغبته فى عودة العلاقات الحميمة والاستراتيجية مع إسرائيل، وإعادة النظر فى موقف تركيا من الصراع فى سوريا لرغبته الأهم فى تفادى إنشاء دولة كردية فى شمال سوريا وما قد يتبعها من تأثير على أكراد تركيا وطموحاتهم فى الاستقلال، وأخيرا تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع موسكو مع ما قد يتطلبه ذلك من تعديل فى سياسة تركيا تجاه سوريا وتجاه الإرهاب الأصولى. وهذا التحول يبدو منطقيا فى ظل الشكوك التركية بنوايا أمريكا تجاه نظام أردوغان من جهة وقرب روسيا من تركيا والمصالح المشتركة التى تربطهما معا والتى قد يعززها بشكل كبير اتفاقهما على الموضوع السورى وخصوصا الوضع النهائى لمناطق شمال سوريا المتاخمة للحدود التركية.
ويختتم الكاتب المقال بأنه على الصعيد العربى فإن خيارات أردوغان محدودة بالإسلام فقط كونه الرابطة المشتركة الأهم بين تركيا والعالم العربى. وهذا يتطلب العودة إلى الإرث العثمانى كإطار جامع يتجاوز القوميات. ولكن الخيار الدينى لا يحظى بإجماع عربى والخيار العثمانى لا يحظى بإجماع تركى إلا إذا تم إعادة تشكيل الموقف التركى من الداخل من خلال اجراءات وسياسات يتم الدفع بها الآن تحت شعار محاربة الانقلابية، وتم تحويل العالم العربى إلى دويلات طائفية ومذهبية تستمد شرعيتها من الدين. وكلا الاحتمالين ما زالا فى طور الأمانى، وإمكانية تحقيقهما لا تزال فى حكم المجهول. إن النتائج العلمية لا يمكن أن تـبنى على الأمانى والتمنيات. طموحات أردوغان الإقليمية هى فى صالح تركيا وقد تكون ضد مصالح العرب سواء جزئيا أو كليا. وعلى العرب أن يعوا ذلك سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين. فتركيا أردوغان تستعمل الإسلام لتعزيز السيطرة التركية على العالم العربى وليس بالضرورة لنشر الإسلام أو تعزيز حظوظه.