الطاقة كسلاح جيوسياسى - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 3:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الطاقة كسلاح جيوسياسى

نشر فى : الإثنين 29 نوفمبر 2021 - 8:30 م | آخر تحديث : الإثنين 29 نوفمبر 2021 - 8:30 م
على الرغم من مضى قرابة نصف قرن على حرب أكتوبر 1973، لايزال الغرب مسكونا بهاجس استخدام مصادر الطاقة كسلاح جيوسياسى إبان الأزمات الدولية الطاحنة أو النزاعات الإقليمية المسلحة. فللمرة الأولى فى تاريخها، جنحت دول عربية منتجة للنفط، لتوظيفه استراتيجيا، عبرخفض تدريجى لصادراته إلى الدول الغربية الداعمة لإسرائيل أثناء الحرب، كالولايات المتحدة وهولندا، لحملها على مراجعة مواقفها المنحازة. الأمرالذى تسبب فى مضاعفة أسعار الخام أربع مرات، فى غضون أربعة أشهر، ليبلغ 14 دولارا للبرميل، ومن ثم ركود الاقتصاد العالمى. وعلى خلفية تلك التجربة المريرة، أخذت الدول الغربية على عاتقها، منع تكرار مثل هذه المأساة.
فى عام 1974، تم استحداث وكالة الطاقة الدولية، بغية تقليص اعتماد أعضائها الـ29 على النفط، والتخفيف من أصداء انقطاع وارداته، عبر تطوير مصادر بديلة للطاقة، وضبط إيقاع الأسواق. وفى العام التالى مباشرة، قررت واشنطن تخزين أضخم احتياطات استراتيجية نفطية طارئة، بواقع 714 مليون برميل، لضمان توافر إمدادات كافية فى حالات الطوارئ، بما يساعد على امتصاص الصدمات النفطية. واليوم، تبلغ هذه الاحتياطات المدفونة فى كهوف ملحية، على عمق 800 متر بامتداد ساحل خليج المكسيك بلويزيانا وتكساس، 609 مليون برميل، تكفى لستة أشهر. أما باقى الدول الأعضاء فى وكالة الطاقة الدولية، فقد عمدت إلى الاحتفاظ باحتياطيات نفطية للطوارئ، تكفيها لمدة 90 يوما. وكذلك فعلت الصين والهند، المنتسبتان للمنظمة، وتمثلان ثانى وثالث أكبر مستهلكى ومستهلكى النفط والغازعالميا، حتى ناهز إجمالى الاحتياطى الاستراتيجى النفطى للوكالة مليارا ونصف المليار برميل.
تأسيا بإجراءات مماثلة لجأت إليها واشنطن وحلفاؤها، إبان اضطرابات محلية وأزمات دولية سابقة، اتجهت إدارة بايدن لتشكيل كارتيل عالمى جديد يضم كبار مستهلكى النفط، يسمى «كونترا أوبك»، لمواجهة امتناع مجموعة «أوبك+»، التى تضم 23 دولة، (13 أعضاء بأوبك تتزعمهم السعودية، وعشر من خارجها، تقودهم روسيا)، عن زيادة إنتاجها النفطى، بمقدار 400 ألف برميل شهريا، بما يكفل لجم الأسعار. وتحت وطأة التداعيات المؤلمة للتأزم الاقتصادى الناجم عن ارتفاع ميزانية الطاقة، تسنى لبايدن التنسيق مع الصين، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، للإفراج عن حصة من احتياطياتها الاستراتيجية النفطية، أملا فى كبح جماح الأسعار، وتحفيز التعافى الاقتصادى. غير أن الخطوة لم تستتبع أثرا ملموسا على أسواق النفط، باستثناء زيادة سعر البرميل بواقع دولارين. وعلى الرغم من توقعهم اضطرار كبار مستهلكى النفط لتعويض فاقد الاحتياطيات، عبر التوسع فى الاستيراد لاحقا، لم يستبعد خبراء أن يشكل المسعى، الذى أذاب شيئا من الجليد بين واشنطن وبكين، تحديا جديدا لمصدرى الذهب الأسود.
بزهاء 40% من احتياجاتها الغازية، تزود روسيا القارة العجوز. فهناك خط أنابيب «يامال ــ أوروبا»،الذى يعبر بولندا ليصل ألمانيا، بطاقة سنوية قدرها 33 مليار متر مكعبا، تمثل 20%من إجمالى صادرات الغاز الروسية لأوروبا. أما نسبة 80% المتبقية، فينقلها الأنبوب الأهم، الذى ينطلق من روسيا ليمر بأوكرانيا قبل بلوغ أوروبا. وفى سبتمبر الماضى، تم الانتهاء من إنشاء خط «نوردستريم2»، بطول 2460 كيلومترا، فيما بدأت روسيا تعبئته فى أكتوبر الماضى، لينقل 55 مليار متر مكعبا من الغاز إلى ألمانيا سنويا عبر بحر البلطيق.
ومنذ مطلع القرن الحالى، توالت تحذيرات كبار المسئولين الغربيين من استخدام روسيا الغاز سلاحا جيوسياسيا ضد أوربا وبعض دول الجوار، بما يتناقض مع مرتكزات أمن الطاقة، التى تشكل المرونة فى سلاسل التوريد، ركنها الركين. فباستغلالها التباين بين العرض والطلب، وتآكل القدرة على التنبؤ الجيواستراتيجى، تتفنن موسكو فى التلاعب بالأسعار والإمدادات. حيث ترفع الأولى على مولدافيا، بينما تقطع الثانية عن أوكرانيا، التى سيفقدها مشروع «نوردستريم2»، وضع «الوسيط اللوجيستى»، لإيصال الغاز الروسى لأوروبا، بما يمنحها نفوذا جيواستراتيجيا، يخولها تحصيل رسوم عبور تلامس ثلاثة مليارات دولارسنويا.
بدورها، اتهمت وكالة الطاقة الدولية، شركة«غازبروم» الروسية، بالتقاعس عن زيادة إمداداتها إلى أوروبا، مبتغية رفع أسعار الغاز، وحمل الأوروبيين على إبرام عقود طويلة الأجل مع موسكو، وإجبارهم على الإسراع بترخيص خط أنبيب «نورد ستريم 2». ذلك الذى تراه أوساط غربية مناورة استراتيجية روسية لتوسيع نفوذ موسكو فى أوروبا، من خلال التحكم فى أمنها الطاقوى، وإكراه الأوروبيين على الرضوخ لمطالب روسية منبتة الصلة بالطاقة. ولعل هذا ما يفسر تعليق برلين، بصورة مؤقتة، منتصف الشهر الحالى، آلية الترخيص للأنبوب المثير للجدل، متذرعة باعتبارات قانونية.
مستنكرة الاتهامات الغربية، أبدت موسكو التزامها الوفاء بعقود الغاز، بغير ممانعة لإبرام عقود جديدة. كما اتهمت واشنطن بإرباك الاقتصادات الأوروبية، عبراستخدام الطاقة كسلاح سياسى، وفرض عقوبات على الدول المُنتجة والمُصدرة لها، بما يؤثر، سلبا، على أمن الطاقة العالمى. وحذر الكريملين من هيمنة أمريكية على الأسواق، تستتبع بزوغ استعمار طاقوى، يجعل منتجى الطاقة ومستورديها رهائن للحملات الانتخابية الأمريكية.
لئن كانت سياسة الطاقة الأوروبية تتمحور حول مدى قدرة روسيا على استخدام إمدادات الغاز كسلاح جيوسياسى، وجهوزية القارة العجوز للحيلولة دونه، تبرز التباينات بين الدول الأوربية. فبينما يمتلك الغرب الأوربى بدائل عديدة لإمدادات الطاقة، تفتقرمعظم دول الشرق والوسط، إلى البنية التحتية الضرورية لاستجلاب الغاز من منتجين غير روسيا. وربما يفسر ذلك، حالة الهلع التى تتملكهم حيال أنابيب الغاز الروسية الرامية إلى تجاوزهم مثل «نورد ستريم2»، إذ بمقدورها إيلام فسطاط شرق ووسط أوربا اقتصاديا، من دون إلحاق ضرر حيوى بفسطاطها الغربى.
من جانبهم، يرى اختصاصيون غربيون أن دبلوماسية خطوط الأنابيب يمكن أن تؤتى أكلها كسلاح جيوسياسى، فى ظل علاقة اقتصادية غير متكافئة بين طرفين، وهو الوضع المفقود فى العلاقة الأوروبية ــ الروسية. فما برحت أوروبا عميلا استراتيجيا لروسيا، التى تفتقد وجهات حيوية بديلة تستقبل غازها. كما يتسم الموقف الأوروبى بالتماسك والمرونة إزاء المناورات الروسية، التى تهدد صدقية شركة غازبروم كمورد موثوق، وبناءعليه، أكدت افتتاحية صحيفة «غارديان» البريطانية، نهاية أكتوبرالماضى: «أن أسواق الغاز أكثر تعقيدا من مجرد صنبور يمكن لبوتين أن يفتحه أو يغلقه».
متوسلة حماية أمنها الطاقوى من الاضطرابات الدولية، عمدت الدول الأوروبية إلى تطبيق استراتيجية إصلاح الطاقة. إذ مررت تشريعات صارمة تضمن تحسين أداء أسواقها الداخلية، واعتماد رؤية الصفقة الخضراء، لتقليص واردات الغاز بنسبة 40% خلال العشرية المقبلة، وصولا إلى 90% عام 2050. علاوة على إيجاد سوق موحدة للغاز الطبيعى والكهرباء، والتوسع فى مشاريع الطاقة المتجددة، ومد خطوط أنابيب مترابطة، لتسهيل تبادل الغاز أوربيا، وتأسيس مرافق لتخزين الاحتياطيات، والحيلولة دون استئثار «غازبروم» بملكية خطوط الأنابيب، وتطلعا لتأمين بدائل عديدة للغاز الروسى، أبرم البريطانيون اتفاقا طويل الأجل مع قطر، يجعلها «مورد ملاذ أخير». فيما تحرص إسبانيا على تنويع مصادرها الغازية، عبر استجلاب الغاز من الجزائر، وأمريكا وقطر ونيجيريا، وشرق المتوسط، فضلا عن حظر تجاوز حصة أى مُوَرِد نسبة 50% من السوق الإسبانية.
للمرة الأولى فى تاريخ العلاقات المضطربة بين الجارتين، اللتين تغلقان حدودهما المشتركة منذ عام 1994، أقدمت الجزائرعلى تعليق خط أنابيب «الجزائر ــ المغرب ــ أوروبا»، الذى ينقل عشرة مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعى سنويا إلى أوربا،عبر شبه الجزيرة الأيبيرية. حيث امتنعت الجزائر عن تجديد عقود سارية منذ 1996، وانقضى أجلها بنهاية أكتوبر الماضى، بسبب خلافات فى المواقف السياسية بين البلدين. ولقاء عبور الأنبوب الجزائرى أراضيها، كانت الرباط تتحصل على نحو مليار متر مكعب منه سنويا، تلبى غالبية احتياجاتها الغازية، وتتيح إنتاج 10% من طاقتها الكهربائية.
فى حين لا تستشعر المغرب فى التصعيد الجزئرى سوى تأثير طفيف على أمنها الطاقوى،على حد قولها، أبدت إسبانيا قلقا لافتا، ما اضطر الحكومة الجزائرية إلى المسارعة بتقديم الضمانات العملية لنظيرتها الإسبانية، بشأن استمرار التدفقات الغازية. فبينما سيزودها خط أنابيب «ميدغاز»، بثمانية مليارات متر مكعبة سنويا، يتم التخطيط لزيادة طاقته السنوية لتبلغ 10.5مليار متر مكعب، فيما تسعى شركة «سوناطراك» النفطية الجزائرية لإمداد إيبريا بفارق الكميات المتفق عليها، عبر زيادة شحنات الغاز الطبيعى المسال المنقول بحرا.
كما الأوربيين، تعتمد كل من الصين واليابان بكثافة على الواردات لتلبية طلبهما المتعاظم على الطاقة. وطيلة عقود خلت،ظلت الصين تعتبر اعتمادها على الشحن البحرى بمثابة نقطة ضعف فى استراتيجيتها لمواجهة التفوق البحرى لواشنطن وحلفائها كاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.أما اليوم، فقد اندمجت سياسات الطاقة الصينية ضمن استراتيجية أمنية شاملة، تنشد تقوية القدرات البحرية، وتأمين نقاط الاختناق، عبر تعزيز نفوذ بكين ببحر الصين الجنوبى. ومن ثم توسعت فى تدشين المزيد من سلاسل التوريد البرية، لتنويع روافد استيراد الطاقة من روسيا، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط. أما اليابان، فتلاقت مخاوفها جراء تنامى القوة البحرية الصينية، مع قلقها بشأن ديمومة الالتزام الأمريكى بضمان أمن ومرونة ممرات الشحن الإقليمية. وبموازاة تشجيعها الرساميل الوطنية والأجنبية على الاستثمار فى مشروعات الطاقة النووية، وثقت تحالفها المزمن مع واشنطن، التى تضطلع بدور شرطى الأمن البحرى الدولى.
بقدر ما ضاعفت معاناة أحفاد الفينيقيين، أتاحت أزمة الطاقة اللبنانية، فرصا لالتئام فرقاء شتى، ضمن ديناميات إقليمية جديدة. ففى سبتمبر الماضى، تمكنت إيران من تزويد لبنان بشحنات نفطية، نُقلت بحرا وبرا عبر سوريا، فى خطوة اعتبرتها طهران وفصائلها الولائية، ترسيخا لنفوذهم الإقليمى، وتحديا للعقوبات الأمريكية المفروضة على صادرات النفط الإيرانية. فى المقابل، لاحت معالم خطة، مدعومة أمريكيا، لحلحلة أزمة الطاقة اللبنانية، تقوم مصر، بموجبها، بتزويد محطات توليد الكهرباء اللبنانية بالغاز، عن طريق خط أنابيب يمر عبر الأردن وسوريا، فيما يتولى الأردن إمداد سوريا ولبنان بالكهرباء، التى سيجرى توليدها من الغاز الإسرائيلى المستورد.
على مثل هذه المشاريع، تعول واشنطن، لأجل تقويض نفوذ طهران المتعاظم فى دوائرها الإقليمية، علاوة على تسريع وتيرة إدماج إسرائيل فى محيطها العربى .فتوخيا لإدراك اتفاق لترسيم حدودهما البحرية الجنوبية، تستنهض إدارة بايدن اللبنانيين والإسرائيليين لاستئناف المفاوضات غير المباشرة. وتفعيلا لصفقة مقايضة الطاقة بالمياه، يرعى الأمريكيون مشروعا يستهدف معالجة عجز الطاقة الإسرائيلى والفقر المائى الأردنى .حيث تمول الإمارات محطة لإنتاج الطاقة الشمسية بصحراء الأردن لتزويد إسرائيل بالكهرباء، وأخرى لتحلية المياه بسواحل إسرائيل المتوسطية، لإمداد الأردن بالمياه.
التعليقات