قبل أيام دار حوار محتدم على صفحتى الشخصية على «فيسبوك» حول علاقة الفن (وضمنا الأدب والرواية والقصة) وبين الأيديولوجيا بمعناها التوجيهى، الإرشادى، المنغلق، المنكفئ على ذاته!.
قلت ــ وما زلت عند رأيى ــ إننى أتوجس خيفة من أصحاب الأيديولوجيا حينما يقررون القفز فى مركب «الرواية» أو الأدب عموما؛ سواء كانوا من اليمين أو اليسار أو الوسط!.. تجارب قراءة سابقة أثبتت أن أغلب هذه الأعمال، إن لم تكن كلها، تكون حمولة الأيديولوجيا فيها أثقل من سفينة الفن! وخصوصا إذا كانت الموهبة والثقافة الأدبية والوعى الفنى ينقصان صاحب أو صاحبة هذه الحمولة، وإذا كان هؤلاء من الأساس يتعاملون مع الأدب أو الفن كمعبر «دعوى» أو بوق «ثورى» أو وسيلة «تربوية»!.
سيكون الناتج مجرد استغلال القالب الروائى أو القصصى لإفراغ حزمة من الأفكار والمقولات واستدعاءات التاريخ والسياسة والأيديولوجيا، وغالبا ما يتم عرضها بكل أشكال المباشرة والخطابة والوعظية والدعائية الفجة، يستوى فى ذلك اليمينى «المتعصب»، والثورى «المتطرف»، والوسطى «المعتدل»!.
الأدب عموما ــ وفن الرواية بالأخص ــ ليس منشورا سياسيا زاعقا ولا منبرا للوعظ والصراخ، ولا مقالا مباشرا يدعى أن غرضه التسجيل والتأريخ كى لا ننسى!! الفنان الموهوب الحقيقى هو من يستطيع أن يأخذ بيد قارئه إلى حيث يريد دون أن يتورط فى التوجيه والوعظ والمباشرة!.
الأدب والرواية والقصة والمسرحية، وكل أشكال التعبير الأدبى ــ فى النهاية ــ هى «فن» عجينته الواقع ووسيلته الخيال، يجب أن تبتعد الرواية مسافات عن النقل المباشر والمرأوى للواقع، البعض لا يفهم من الرواية سوى أنها «حامل» للأفكار، وكراسة لتدوين الأحداث والوقائع التى جرت، وليست هى بحد ذاتها منتجة للأفكار أو أنها هى بذاتها تشكيل جمالى فى المقام الأول! وللأسف إذا غاب الخيال وانتفت الغاية الجمالية من الكتابة، فلا رواية ولا فن ولا إبداع! أو هكذا أتصور!.
ويسأل سائل: ولماذا يشترط فى الفن أن يكون غير مباشر؟
الإجابة ببساطة ووضوح، كما طرحها صديقى الناقد محمود عبدالشكور: «ثلاثة أشياء تقتل الفن: المباشرة والسطحية والصوت العالى».. وأما لماذا يجب أن يكون الفن غير مباشر؛ فلأن الفنان ساحر، بل هو أعظم سحرة الأرض، هل رأيت ساحرا كشف عن تفاصيل لعبته أو شرح حيلته للجمهور. كلا. الفنان غير الواعظ، والمبدع الحقيقى، وهو بالتأكيد صاحب أيديولوجيا، لكنه أبدا لا يسمح لها أن تعلو على جمال الفن ومقتضيات التعبير الإبداعى.
إن المشكلة فى ظنى ليست فيما يعالجه الفن أو يتعرض له. نعم. الفن يعالج أى شىء وكل شىء.. أى فكرة وكل فكرة، أى موضوع وكل موضوع.. إنما ما الذى يفرق الفن عن غيره؟ كيف تصنع فنا؟ كيف ستعالج هذه الفكرة أو تلك؟ كيف ستتعرض لتلك الأيديولوجيا أو غيرها؟
«الفنان الحقيقى» هو الذى يدرك أن الفن تشكيل وصياغة جمالية فى المقام الأول، وليس عرض أفكار أو تجميع محتوى أو إرشاد جماعى! وإلا فما الفارق بين الفن والإبداع كما يتذوقه المتذوقون العارفون وبين «مقال رأى» مباشر وصريح مثل الذى أكتبه الآن أو برنامج توك شو زاعق النبرة!..
فى ظنى جزء أساسى من مشكلة الكتابة الإبداعية، الآن، فى ضبابية المفاهيم، وغياب الثقافة، وقلة الزاد، ومحدودية الوعى، وفقر الخيال!
وفى النهاية كل الآراء فى الفن والإبداع الإنسانى عموما «نسبية»، وليست قوانين حاكمة مانعة..
يبقى دائما مساحات فى الفنون للاختلاف فى التلقى؛ قبولا ورفضا، المهم أن يقدم كل صاحب رأى حيثياته، وما سيبقى سيبقى وما سيذوى سيذوى.. «الزمن» هو الناقد الذى لا يحتال عليه أحد ولا يقاومه أحد.. أبدا.
«كلمتين وبس»:
«يسأل الناقد الراحل غالى شكرى نجيب محفوظ عن «الخيال»:
هل هو مادة لاصقة لمكونات الرواية المتباعدة أم أنه أداة عقلية تعيد ترتيب الكلمات؟
يجيبه محفوظ: الخيال هو كل شىء.. الأدب عالم خيالى. وليس المقصود هنا هو «المدينة الفاضلة» التى بدأت من الفلسفة وانتهت إلى الرواية العلمية.. لا. الكتابة إبداع خيالى للواقع؛ وليست العكس إبداعا واقعيا للخيال!.
(غالى شكرى.. نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل)