التحرير قبل الإيمان - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:41 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التحرير قبل الإيمان

نشر فى : السبت 30 يناير 2016 - 10:45 م | آخر تحديث : السبت 30 يناير 2016 - 10:45 م
ضمن ما غيرته الثورات العربية، هو جرأة وعلنية الأطروحات التى حاولت أن تشتبك مع التراث الدينى الإسلامى، وقد سببت تلك الأطروحات المتفاوتة فى جديتها وعمقها جدلا شديدا ومازالت فى المجتمعات العربية، كما أنه تمت مواجهتها من قبل السلطة بعقوبات تراوحت فى شدتها ولكنها عرّضت أصحاب الأطروحات للسجن أو الحبس كما أنها جلبت لهم اللعنات وعدم التعاطف المجتمعى فى معظم الأحيان.

لا الأطروحات المتحدية للتراث الدينى جديدة ولا ردود فعل السلطة والمجتمع جديدة هى الأخرى، ولكن الجديد فى السنوات الأخيرة أن مسألة تحدى التراث أو التشكك فيه قد اتسع نطاقها بعد الثورة بشكل واضح، وبحسب رأيى فإن ذلك كان أحد التحولات الثقافية للثورة كون أن الأخيرة لم تطرح فقط فكرة تحدى السلطة السياسية، ولكنها طرحت فكرة تحدى السلطة بشكل عام، كل سلطة وأى سلطة! فضلا عن ذلك فإن موقف المؤسسات الدينية تحديدا الذى تقلب كثيرا بتقلب السلطة السياسية، فضلا عن فشل تيارات الإسلام السياسى التى وصلت إلى السلطة بعد الثورة قد هز صورة مسلمات كثيرة أمام أتباعها وخاصة من الشباب، فاذا أضفنا إلى كل ذلك انتشار وسائل التواصل وقلة تكلفتها أمنيا وماديا، فإننا نستطيع أن نفهم بوضوح لماذا انتشرت هذه الأطروحات لتتخطى النخبة وتصل إلى الأجيال الأصغر بسرعة أكبر، ومن هنا فإن حبس أحد المشاهير نسبيا ممن عرض أطروحات متحدية للتراث، لن يستطيع أن يمنع آخرين أقل شهرة من إعادة الطرح، بل إن عقوبة هؤلاء ستزيد من التعاطف مع الأطروحات المتحدية للتراث باعتبارها أطروحات للتمرد على السلطة قبل أى شىء!
فى نقاش قريب بعد الحكم بحبس أحد أصحاب هذه الأطروحات، وبعد إعلانى أن صاحب الطرح قد يكون بالفعل قشريا ولكنى متضامن معه ضد أى عقوبة بسبب فكره، رد على أحد الزملاء بالقول أن صاحب الأطروحة لابد أن يعاقب لأن نشر مثل هذه الأفكار فى مجتمعات ينتشر بها الجهل وتدنى مستويات التعليم مثل مجتمعنا قد يزعزع «إيمان» الناس البسيطة ممن لا يملكون عقلا نقديا قادرا على تفنيد حجج أصحاب مثل هذه الأطروحات المتحدية! طرح عندى هذا الرد من الزميل العزيز استدعاء سؤال منطقى مبنى على نفس حجته، يقول السؤال ببساطة، إذا كنا نخشى على البسطاء من مثل هذه الأطروحات المتحدية، فلماذا كنا مطمئنين منذ البداية «لإيمانهم»؟ اذا كان البسيط أو بعبارة الزميل «الجاهل» يخشى من تزعزع إيمانه بهذه البساطة فما هى حقيقة إيمانه أصلا منذ البداية وهو على هذه الحالة من الجهل؟!
***
الحقيقة أن هذا الموضوع يطرح قضية أكثر تعقيدا متعلقة بالتفرقة بين حالة «الإيمان» كوراثة أو عرف اجتماعى، وبين الإيمان كعقيدة ثابتة مبنية على اقتناع تام وبالتالى غير قابلة للتحول بهذه البساطة لأطروحة هنا أو هناك، ولكنها قادرة على الاشتباك والنقاش والتفنيد والنقد. الحقيقة أن الإيمان كوراثة أو كعرف لضمان الدمج داخل الجماعات المجتمعية المختلفة يعد هو النمط الأبرز فى منطقتنا العربية، والحقيقة فى مناطق أخرى كثيرة غير عربية، بحيث أن الإيمان يورث دون مراجعات عقلانية حقيقية، ويتحول بالتدريج فى حياة الناس إلى طقوس مقدسة خالية من المضامين، أو إلى وسائل للحماية من اللفظ المجتمعى بل والترقى فى سلم المجتمع غير الحر الذى يطلب من أعضائه أولا إظهار الولاء والبراء لقيمه العليا المؤسِسَة إلى درجة أنه يفرض عليهم مفردات لغوية سحرية للدمج، مثل الرد على التليفون أو استبدال «تصبحون على خير» بالسلام عليكم، أو كثرة استخدام «جزاك الله خيرا» و«جزانا وإياكم» بديلا من شكرا /عفوا.
صحيح أن تنميط هذه المفردات اللغوية ليست مقصورة على جمهور المتدينين، فجمهور المرتقين اجتماعيا، أو المتطلعون إلى هذا الترقى، أيضا استبدلوا بشكل رسمى «شكرا»، باللفظة الفرنسية «ميرسى»، وهنا لعلماء اللغويات والاجتماع السياسى باع طويل فى التحليل، لكن المهم أن الإيمان بهذا المنطق القائم على الإرث لا يتم فى إطار حرية حقيقية. ليس فيه خيار حر رشيد حتى تكون فيه عودة حرة رشدة أو تمسك حر عقلانى أيضا. إذا كنت قد ولدت لأسرة مسلمة أو مسيحية (مثلا)، فالجميع، وليس الله، يطلب منك أن تظل كذلك طيلة حياتك دون اعطائك دقيقة واحدة فقط للشك، بل أنك إذا ما تجرأت وسألت عما يجول فى نفسك من منطلق إيمانى بحت، فإنك فى العادة تواجه بإجابات بعيدة عن سؤالك، هذا اذا كنت محظوظا حقا، أما ان لم تكن كذلك فستكون الإجابة التقليدية التى تطالبك بعدم الجدل وعدم السؤال والإقرار بالطاعة لأنك مؤمن وموحد!
أما إذا كان إيمانك من منطلق اقتناع تام، فإن نظرتك لإيمانك هذا ستتخطى مرحلة الطقوس والأعراف إلى مرحلة العمل والتغير الحقيقى المدفوع بدوره بإيمانك الحقيقى وليس المصطنع! ولكن كيف نحصل على هذا الإيمان الحقيقى؟ لابد أن نحرر الناس. أن نجعلهم آمنين فى شكهم حتى يكونوا مخلصين فى إيمانهم أيا كان هذا الإيمان، لكن كيف ندعى أن المؤمن غير الحر هو مؤمن حقا؟
المؤمن غير الحر هو المؤمن الذى لا يستطيع أن يجاهر بشكه أمام أحد، لأنه لو فعل لتلقى نظرات الشك والريبة ومورست عليه ضغوطات اجتماعية كفيلة بقلب حياته إلى جحيم، أما قطعا لو قرر تغيير هذا الإيمان لتعرض لحملات اللفظ والكراهية المجتمعية فضلا قطعا عن احتمالية تعرضه للأذى من قبل السلطة، ومن هنا تتحول المجتمعات غير الحرة إلى مجتمعات من مدعى التدين ومدعى الأخلاق، تكثر صلواتهم ولكن يقل انتاجهم ويكثر فسادهم، يزداد حديثهم عن الأخلاق والصح والخطأ والحلال والحرام، ولكنهم يخرسون عن الظلم وانتهاك حقوق البشر إن لم يتحولوا إلى مؤيدين له. تزداد دور عبادتهم ويتدهور حال مستشفياتهم ومدارسهم ومواصلاتهم العامة.
المطلوب إذا أن نخاطب أصحاب الأطروحات المتشككة أو غير المؤمنة ليس من باب«الاستتابة» لأن الأخيرة تحمل علاقات قوة غير متكافئة، فضلا عن أنها ذات طابع تهديدى واضح، ولكن من باب الحوار والنقاش الآمن. آمن لأنه لا يشترط نتيجة معينة للسلامة. فمن شاء آمن ومن شاء كفر، أليس هذا هو موقف الدين بالأساس؟!
***
أعيد قراءة الكتاب الأشهر لمصطفى محمود«حوار مع صديقى الملحد«، لأكتشف إنه فى الواقع«حوار مع صديقى المؤمن الذى تساوره نفسه بالإلحاد«! أى أن مصطفى محمود رحمة الله عليه لم يخاطب الملحدين بقدر ما كان يخاطب المؤمنين الذين يساورهم الشك، مع العلم إن ترك مساحة حرية حقيقية لهؤلاء قد يجدد إيمانهم ويجعله أقوى وأصدق، ولكن لنفترض أن تلك الحرية قد قادتهم لإيمان مختلف أو حتى لعدم الإيمان على الإطلاق، أليس ذلك حرية! أليس ذلك أفضل من الادعاء خوفا أو رهبة من عقاب هنا أو عقوبة هناك؟
لن تستقم الأمور فى مجتمعاتنا إلى أن يتحرر البشر قبل أن يؤمنوا، قبل أن نعلم أن لحظة الشك هى نفسها لحظة الإيمان، أى إيمان وكل إيمان، لأن لحظة الشك هى نفسها لحظة الحرية، لحظة العقلانية، فيكون بعدها إيماننا حقا أو ببساطة لا يكون. فحرروا الناس قبل أن تسألوهم الإيمان.

مدرس النظم السياسية المقارنة، جامعة القاهرة.
أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر