بين جاردنر وعبد الغفور - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين جاردنر وعبد الغفور

نشر فى : الإثنين 30 يناير 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : الإثنين 30 يناير 2023 - 8:35 م
كثيرة هي أعمال الدراما التي استلهمت من التاريخ البشري، قصص كفاح تفيض على المشاهد بالعبر والدروس، فتترك ندوباً غائرة في وجدانه، وتشكّل جانباً من ردود أفعاله في المواقف المشابهة لتلك التي مرت بأبطال تلك القصص.
من تلك الأعمال مسلسل شهير لا تكاد الشاشات الفضائية تخلو من عرض حلقاته، إذ تسلمه قناة لأخرى في عرض مستمر لا ينقطع إلا نادراً. مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" هو عمل هام تحوّل في الدراما التلفزيونية إلى شيء مختلف عن الرواية التي كتبها "إحسان عبد القدّوس" وصدرت عام 1982، لكن أثر العمل الدرامي كان الأهم والأكثر انتشاراً وتأثيراً، وعلى الرغم من عدم التأكد من تماس أحداث الرواية أو المسلسل مع أشخاص حقيقية على سبيل الاقتباس أو الاستلهام، فإن "الحاج عبد الغفور البرعي" شخصية المسلسل الرئيسة والتي جسّدها الفنان الراحل نور الشريف، قد صار نموذجاً للرجل العصامي الذي تلهم رحلة صعوده من الفقر المدقع إلى الثراء المبهر، الملايين من المشاهدين العرب على مر السنوات منذ العرض الأول للعمل الدرامي في يناير من عام 1996 وحتى اليوم.
كذلك لا يمكنني التفكير في أعمال فنية ملهمة دون أن يمر بخاطري "السعي إلى السعادة" The pursuit of happiness وهو فيلم أمريكي بطولة الفنان العالمي "ويل سميث" والذي جسّد خلاله شخصية حقيقية للمليونير "كريستوفر جاردنر" الذي صارت رحلة صعوده من التشرّد في الشوارع بصحبة ابنه الوحيد، إلى تأسيس شركات كبرى لإدارة الأصول المالية، نموذجاً حياً على قهر المستحيل. وقد اخترت هذين العملين موضوعاً لمقال هذا الأسبوع، في محاولة لتسليط الضوء على شخصية البطل في كل عمل، وعلى ملامح قصة نجاح كل منهما، وشكل العبر التي يمكن أن يتعلمها المشاهد أو يستلهمها من قصتي الكفاح موضوع العملين.
• • •
"جاردنر" رجل طموح يرفض العمل في وظيفة تقليدية، فيستثمر مدخراته كلها في مشروع لم يحقق النجاح، فتتعرّض أسرته الصغيرة المكونة منه ومن زوجته وطفله الصغير، لمخاطر الإفلاس، لكن زوجته ترفض أن تتحمّل معه عاقبة إخفاقه وتتركه مع الطفل لتذهب للعمل في الطرف الآخر من الولايات المتحدة، دون اكتراث لمصير الزوج أو الابن بعد أن غلّقت أمامهم كافة الأبواب. "جاردنر" يجد فرصة للعمل في إحدى شركات الوساطة المالية الكبرى، لكن الفرصة لا تعدو أن تكون برنامجاً تدريبياً غير مدفوع الأجر، والنجاح فيه المفضي إلى التعيين هو أمر غاية في الصعوبة، نظراً لشدة التنافسية وصعوبة الاختبارات. يمر الرجل بكل هذا وفي يده طفل صغير، ينقطع عنه الأجر ويطرد من البيت ثم من النزل ويعيش مشرداً في الشوارع يبيت في مأوى المشرّدين أو حمامات الأنفاق، تطارده الضرائب ومخالفات المرور. حتى تمر الأشهر العجاف ويحقق المستحيل، بالمثابرة والدراسة والتعلّم الذاتي وملاحقة الحلم والعيش على فتات ما تبقى من مشروعه الفاشل، الذي يبيع أصوله بالخسارة. يتفوق رغم الظروف الصعبة على كل منافسيه، يتميز فى الجانب العملي والنظري معاً حتى ينال غايته.
أما "عبد الغفور البرعي" فلم ينل قسطاً من التعليم، نشأ مدللاً في كنف أبيه، ثم وجد نفسه فقيراً بعد موته، وانقطعت به السبل إلا من العمل أجيراً في وكالة لبيع الخردة. رحلة كفاح "عبد الغفور" لا تخلو من مقاومة للظلم والتنمّر والتربّص من بعض العاملين في الوكالة، لكنها لا تخلو أيضاً من مساعدة مستمرة من الحاج "إبراهيم سردينة" الذي قرّبه منه وعمل على تلقينه أصول المهنة ومساعدته في خطواته الأولى لتحسين دخله بالعمل الحر. شخصية "سردينة" هي صاحبة الفضل الأول على "البرعي" ومصير قصة الكفاح ظل رهناً برجاحة عقل الرجل وعدم مجاراة الكارهين لعبد الغفور في قطع عيشه.
• • •
الركائز الحقيقية لرحلة صعود "جاردنر" تقوم على التزوّد بالعلم، والصبر على المحن، والتماس الأسباب لتحقيق الحلم حتى وإن ثبّطه أقرب الناس إليه. أما القفزات التي حققها عبد الغفور البرعي فقد قامت على خدعة نشرها فى الوكالة مفادها أنه عثر على كنز! وقد استغل تلك الشائعة في ابتزاز التجار ليحصل منهم على مقابل عدم مشاركته في المزادات التي يقسمونها بينهم! آلية اتفاق التجار على تقسيم والتحكّم في المزاد هي في ذاتها نموذج للفساد ومخالفة القانون، وربما انطوت على نهب للمال العام، لأن اتفاق المزايدين على تقسيم المزادات في الخردة (التي عادة ما تطرحها الدولة ومؤسساتها) يعني إرساء المزاد بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية، وتقسيم المكسب الحرام بحصص على المزايدين، يحرم الجهة التي طرحته -سواء خاصة أو عامة- من حقها في أن تبيع الأصول بأسعار أعلى، لو أن المزاد ترك حراً لتقدير المتنافسين. إذن فالجميع يمارسون نشاطاً مشبوهاً في قصة عبد الغفور البرعي حتى معلمه سردينة، والجميع يحققون الثراء على أسس من الخديعة وإهدار حقوق الغير!.
"جاردنر" متعلّم لكنه تواق لتعلّم المزيد أما "البرعي" فلم يسع إلى محو أميته حتى بعد أن تهيأت له أسباب الثراء، واكتفى بأن يعوّض هذا النقص في أولاده، وربما كانت تلك أهم حسناته وميراثه الحقيقي. لم يبخل "جاردنر" أبداً على ولده بأي مكسب يحققه، كي ما يحفظه من الصعوبات التي واجهها، بل كان يعالج الطفل نفسياً بقصص مسلية تهوّن عليه المبيت في الشوارع، على الرغم من صعوبة تلك الأيام على نفسه. أما "عبد الغفور" فقد وجدته بخيلاً في ماله وعاطفته بدعوى الحرص، إذ كان يقتّر على أقرب الناس إليه بزعم أن ذلك يساعدهم على تعزيز صلابتهم في تجاوز أزماتهم. وظل يعبث بنفسية ابنه الذكر الوحيد حتى أصابته الكوابيس وعاش مضطرباً في كل مراحل عمره.
مدار تميز "عبد الغفور" عن غيره (كما تكرر على لسان أشخاص المسلسل) أن أحداً لا يعرف فيما يفكّر الرجل! ولا أعرف كيف تكون تلك ميزة تدل على رجاحة العقل؟! بل لا أعرف بطلاً حقيقياً لرحلة صعود عبد الغفور سوى مساعده المتعلم "فهيم أفندي" الذي كان يقرأ له الجرائد ويطلعه على الأخبار، ويأتي له بالخبراء ويساعده في التوسّع، دون أن يعود عليه ذلك بأي منفعة حقيقية، حيث ظل كل العاملين حول عبد الغفور فقراء حتى نهاية المسلسل. أما "جاردنر" فتميّز باتقاد ذكائه، ونشاطه المفرط، حتى إننا كنا نراه يحرم النوم، ويجري مسرعاً ولو حافي القدمين في كثير من المشاهد.
النقود عند "جاردنر" هي مطيته لتحقيق السعادة، وهي سيلة لإسعاد ابنه وتحقيق أحلامه، والنقود عند عبد الغفور غاية وهدف ومحور كل قرار يتخذه. فعندما تفشل زيجة ابنته فكل ما يشغله كيف يتصرف فى عفش البيت! وكلما التمسه أحد في خدمة أو مصلحة مشتركة، كانت الفكرة المسيطرة عليه هى أن "الأصول" تتطلب أن يأتي الطرف الآخر إليه ويطرق بابه!.
"عبد الغفور" له من الأبناء خمسة أنجبهم جميعاً قبل أن يتحوّل إلى الثراء الكبير، أنجبهم دون اعتبار لمخاطر عجزه عن تربيتهم وتعليمهم ورعايتهم بالمفهوم الشامل للرعاية، والنتيجة أنهم فشلوا جميعاً في حياتهم باستثناء البنت الصغرى التي انفصلت نفسياً واجتماعياً عن ظروف نشأة أسرتها. "جاردنر" له ولد وحيد، جعله محور اهتمامه وحافزه على تحقيق المستحيل، وكان يحضنه باستمرار ويشمله بالعاطفة الجياشة، ويرفض الانفصال عنه تحت أي ظروف.
على الرغم من أن المدى الزمنى الذي تغطيه رحلة كفاح "عبد الغفور البرعي" أكبر كثيراً من ذلك الذي تحصيه ترجمة حياة "كريستوفر جاردنر" إلا إن الرسائل المركزة والدروس المستفادة من "السعي إلى السعادة" كانت أعمق أثراً وأكثر اتزاناً وانتصاراً لقيم العلم والعدل والإيثار والاقتصاد وتنظيم الأسرة وإشباع الطموح.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات