فى مقال الأسبوع الماضى، تساءلنا إن كانت أولوية النضال الشعبى ونضال مؤسسات المجتمع المدنى العربى، حاليًا ومستقبلًا قريبًا، يجب أن تتوجه أولًا إلى إصلاح الدولة العربية أو إلى علاج السلطات التى تدير تلك الدولة. وبينّا أن كثيرًا من علل سلطات حكم الدول العربية الحديثة التكوين سببها متجذر فى ظروف قيام هذه الدول على أسس موروثات عربية ــ إسلامية تاريخية، سياسية واجتماعية وثقافية ومذهبية طائفية، تتناقض والأسس التى قامت عليها مكونات شرعية الدولة/ الأمة العصرية، وعلى الأخص المكونات المفصلية الحقوقية والقانونية والديموقراطية.
ذلك أن دولة مصابة بألف علة وعلة عند نشأتها لا يمكن إلا أن تفرز وتتعايش مع سلطات حكم هى الأخرى مليئة بالعلل.
فما هى تلك العلل البنيوية فى الدولة العربية الحديثة التى نتجت عن ظروف نشأتها وتكونها التاريخى الحديث؟ إنها باختصار شديد تتمثل فى الآتى:
أولًا: الاختراق القبلى والمذهبى الطائفى والعرقى والجهوى لمؤسسات المجتمع المدنى، ومن ثم لكثير من المؤسسات العامة، وإضعاف قدرة كليهما على الدخول فى عوالم الحداثة الفكرية والسلوكية. والنتيجة هى إعاقة الدولة من أن تقوم على أسس شرعية ديموقراطية عادلة لمنع أن تُحكم أو تُدار من قبل سلطة تسلطية تمثل مصالح مجموعة محدودة أو أقلية قبلية أو مذهبية أو عرقية بدلًا من تمثيل كل المواطنين والمواطنات بالتساوى فى الحقوق والمسئوليات.
ثانيًا: أدت تلك الولاءات الفرعية إلى وجود خلل وضعف فى مشاعر الشعوب تجاه شرعية الدولة العربية الحديثة، وبالتالى أدى هو الآخر إلى خلل فى الشرعية السياسية التى بدلًا من أن تقوم على أسس ديموقراطية تداولية تشاركية مع المجتمع انقلبت إلى علاقات أبوية تسلطية، نرى نتائجها اليوم فى الدمار الهائل والانحطاط المعيب الذى أصاب العديد من الدول القطرية العربية وجعلها دولًا ينهشها الخارج ويفسدها الداخل.
بهذا أصبحت دولًا لا تستطيع أن تنفصل وتستقل عن شخص الحاكم ولا أن تتغير أنظمة حكمها وتنضج، معتمدة فى إدامة ذلك المشهد الحزين على القمع الأمنى السافر والمبطن، وعلى التفنن فى علاقات الزبونية مع الخارج وفى تكريس العلاقات الرعوية الاقتصادية التاريخية مع مجتمعها.
ثالثًا: لكن أخطر نتائج تلك المشاهد والعلاقات المريضة استشراء الفساد السياسى والإدارى، بل وتجذّره فى بعض المجتمعات وارتقاؤه إلى أن يصبح مؤسسة لها أنظمتها وعلاقاتها الخاصة بها وعلى ابتداعها شتى التلاعبات الظاهرة والخفية فى حقول السياسة والقضاء والإعلام على الأخص.
وبالرغم من وجود أجهزة رقابة إدارية وقانونية، إلا أنها فى الأغلب معطلة الفاعلية بالنسبة لهذه الجهة أو تلك القوة الحاكمة.
ولقد أوقفت ظاهرة الفساد نضج وتطوير استراتيجيات التنمية الإنسانية العربية وجعلتها تدور حول نفسها عقدًا بعد عقد من الزمن، كما شوهت كل محاولات الاستقلال الوطنى والقومى، وأبقت الدولة العربية تابعة وخاضعة حتى بعد استقلالها التاريخى المبهر.
تحت تلك العناوين الثلاث الكبيرة توجد عشرات العلل والتشوهات التى صاحبت نشوء الدولة العربية الحديثة ومسيرتها المتعثرة. وهى تحتاج إلى أن تواجه بنفس القوة والإرادة التى ستواجه بها المجتمعات العربية تشوهات الكثير من سلطات إدارة وحكم الدول العربية الحديثة.
من هنا، لعل الأفضل أن لا نتحدث عن أولوية هذا النضال أو ذاك، وإنما نركز على تفاصيل تناسق وتكامل النضالات الشعبية والمدنية العربية الرامية لإصلاح الدولة العربية ومعالجة علل سلطات حكمها فى الآن نفسه. ذلك أن مرض الجهتين قد أصبح مرضًا خطرًا واحدًا، يهدد الوجود العربى برّمته.