قبل أيام ذهبت وعائلتى لمدينة بالتيمور المجاورة للعاصمة الأمريكية لقضاء يوم عطلة شتوية مع حلول أعياد الميلاد. واتفقنا على جدول الرحلة بالساعة، واتفقنا على قضاء ساعتين فى مكتبة بارنز آند نوبل Barnes & Noble لبيع الكتب والتى تتوسط منطقة الميناء التاريخية الشهيرة.
وبعد الوصول توجهنا للمكتبة، وصدمنا لوجود الأبواب مغلقة، وعرفنا أن المكتبة أغلقت أبوابها قبل شهور. لم تكن تلك المرة الأولى أو الأخيرة التى تمتلكنا الصدمة من غلق إضافى لأحد محلات بيع الكتب التى نرتبط بها بصورة أو أخرى.
فقبل سنوات أغلقت المكتبة فرعها الضخم الواقع على مقربة من بيتى. ولم يكن غلق هذا المكان حدثا تقليديا ينطبق عليه منطق محل يغلق وآخر يفتح باعتبار ذلك سُنة من سُنن الحياة الحديثة. فقد ارتبطت بهذا المكان لسنوات طويلة، وأصبح الارتباط فريدا ومعقدا بعدما انضم له طفلاى الاثنان عندما جَاءَا للحياة قبل 11 عاما و8 أعوام ماضية. ومنذ انتقالى للعاصمة الأمريكية للإقامة فيها قبل عقدين من الزمان أشهد بلا توقف حركة سلبية تعكسها تطورات التكنولوجيا والعمران وأثرت بصورة خاصة على مكانين يجمعنى بهما العشق الذى يُترجم فى ساعات طويلة أقضيها فيهما بانتظام، ألا وهما مكتبات بيع الكتب وصالات السينما.
أغلقت الكثير من صالات السينما فى واشنطن، وكانت هذه الصالات تعرض أفلاما أجنبية من مختلف بقاع الأرض، وكانت تعرض أفلاما أمريكية مستقلة غير تجارية تتعرض لموضوعات غير تقليدية، وكانت تعرض أفلاما لسينمائيين غير معروفين، وكانت تعرض أفلاما هى العمل الأول للكثير من المنتجين والمخرجين. اليوم لم يصمد أمام موجة غلق صالات العرض التى تعرض أفلاما غير تجارية إلا عدد قليل تصارع معه مظاهر التقدم التكنولوجى السريع والتى يضيق معها إمكانية جذب الشباب والأجيال الصغيرة لصالات العرض خاصة مع توافر تكنولوجيا المشاهدة المباشرة لأحدث الأفلام على الأجهزة المحمولة. أما موضوع غلق المكتبات فهو مختلف تماما ولأسباب عدة.
•••
عرفت مكتبات بارنز آند نوبل، واعتقدت بداية أنها تعاملنى بوصفى ملكا متوجا! فقد شجعتنى على قضاء ساعات طويلة فيها إما لغرض الدراسة والمذاكرة فى فترة الدراسة بعد الجامعية، أو لقضاء ساعات مطلعا على آخر المجلات وأحدث الدوريات من مختلف دول العالم فى مجالات الاهتمام الشخصية. وبين هذا وذاك مئات وربما آلاف الكتب، وبالنسبة لى فقد كانت بمثابة ثورة حقيقية أن يُتاح لى ولأى شخص أن يمكث لساعات بين عالم الكتب والمجلات والدوريات، ويمكنه تصفحها أو قراءتها بكل حرية دون أن يشترى أيا منها، ويضاعف من حبك لهذا المكان وجود محل للقهوة يبيع أنواعا طيبة من المشروبات الساخنة والباردة وبعض السندوتشات والمخبوزات. ومع تعرفى أكثر على عالم بيع الكتب داخل واشنطن، جاء اليوم الذى تدور فيه الدائرة لتعصف بمكتبات بارنز آند نوبل. فقد دفعت هذه المكتبة مئات وآلاف من مكتبات بيع الكتب الصغيرة والتى تدار عن طريق عائلة أو شخص للإفلاس والغلق. فقد وفرت نموذجا عملاقا صعبت معه المنافسة من هذه المحلات الصغيرة، وعلى الرغم من وجود ما يزيد اليوم على ألفى محل أو مكتبة صغيرة لبيع الكتب، فإن هذا الرقم وصل فى بعض الفترات لما يزيد على عشرة آلاف محل مستقل لبيع الكتب. وكذلك أخرجت بارنز آند نوبل منافستها لسنوات طويلة وكانت تدعى بوردرز من المنافسة قبل أن تعلن إفلاسها. ومع هذه التطورات شهدت تحول أحدى مكتبات بارنز آند نوبل الرئيسية والكبيرة المساحة والتى تقع فى قلب منطقة جورج تاون بواشنطن إلى محل شهير لبيع أدوات ومستلزمات رياضية، وشهدت كذلك تحول مكتبتين أخريين تقعان على بُعد عدة مئات من الأمتار من البيت الأبيض إلى إحدى سلاسل محلات بيع الملابس.
•••
وعلى الرغم من ذلك، ومن المثير للاستغراب كذلك أن شركات بيع الكتب الأمريكية مازالت تحقق ملايين الدولارات من الأرباح سنويا وذلك لتبنيها آخر الإبداعات التكنولوجية، إضافة لقدسية القراءة عند الشعب الأمريكى الذى يصل معه متوسط عدد الكتب التى يقرأها الأمريكى إلى 12 كتاب سنويا. وخلال عام 2021 بلغت قيمة مبيعات الكتب فى أمريكا مبلغ 26.8 مليار دولار، وبلغ نصيب بارنز آند نوبل منها ما يقرب من 4.2 مليار دولار.
تمتلك بارنز آند نوبل حاليا أكثر من 500 محل فقط من المحلات منتشرين فى أغلب ولايات أمريكا، وتبيع 190 مليون كتاب سنويا سواء من مكتباتها أو موقعها الإلكترونى، وتقع فى المركز الثانى فى المبيعات خلف موقع أمازون. لعبت أمازون دور العملاق تجاه مكتبات بارنز آند نوبل التى بدت صغيرة فى مواجهة عملاق جديد لا يبدو أن أحدا قادر على إيقافه بعد. وتحمل أرفف مكتبات بارنز آند نوبل أكثر من ألف صحيفة أمريكية وغير أمريكية، إضافة إلى ما يزيد على خمسة آلاف مجلة.
•••
حكيت للأولاد الصغار أن هذه المكتبة تأسست عام 1873 على يد شخص اسمه تشارلز بارنز فى ولاية إلينوى وذلك قبل أن يتعرف ابنه لاحقا على مكليفورد نوبل لإنشاء بارنز آند نوبل إبان الكساد العظيم، والذى رفع فيما بعد راية متجر بارنز أند نوبل الذى تم فتحه بمدينة نيويورك عام 1917، والذى لايزال موجودا حتى يومنا هذا. تساءل طفلاى الصغيران باستغراب لماذا يتم غلق مكان محبب لهم وللكبار من حولهم كذلك؟ مكان شهد أول ارتباط لهم بعالم الكتب والقراءة، مكان صنعوا فيه صداقات، وحملوا معهم منه ذكريات.
أجبتهما بأنها سُنة الحياة، وأن عليهما انتظار افتتاح مكتبة على بعد خطوات من مكتبتهما المفضلة بعد أسابيع قليلة. وهو ما تم حيث افتتحت أمازون مكتبتين على الأقل فى واشنطن، إحداهما تجاور الموقع القديم لبارنز آند نوبل، والأخرى تجاور مكتبة أخرى لبرانز آند نوبل أغلقت قبل سنوات.