تسليع الحماية الأمريكية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 2 أبريل 2025 6:13 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

تسليع الحماية الأمريكية

نشر فى : الإثنين 31 مارس 2025 - 5:45 م | آخر تحديث : الإثنين 31 مارس 2025 - 5:45 م

لطالما شكل الخلل ما بين امتلاك الدولة موارد طبيعية حيوية أو امتيازات جيوسياسية فريدة؛ وحيازتها قدرة على حمايتها وبلوغ الاستفادة العظمى منها، بإمكانات وطنية مستقلة؛ معضلة استراتيجية لدول شتى.
ملتمسًا الحصول على ضمانات أمنية أمريكية لبلاده، تضمن إحلال السلام الدائم، والحيلولة دون تعرضها لهجمات مستقبلية؛ أبدى الرئيس الأوكرانى استعدادًا لإشراك الولايات المتحدة فى استغلال ثروات طبيعية أوكرانية ومشاركة أرباحها. بدورها، هرعت إدارة ترامب، إلى إقناع كييف بالموافقة على بنود تفصيلية بشأن ملكية وإدارة صندوق استثمارى مشترك، يشمل أصولًا اقتصادية، على شاكلة المعادن النادرة ومحطات الطاقة النووية. وكان البلدان قد توصلا، يوم 25 فبراير الماضى، إلى اتفاق إطارى بشأن التطوير المشترك للموارد المعدنية، ومصادر الوقود الأحفورى، اعتُبر نسخة معدلة من المقترح الأصلى لإدارة ترامب. إذ تم حذف الإشارة إلى عائدات محتملة بقيمة 500 مليار دولار، جراء استخراج مستقبلى للمعادن الحيوية النادرة، فيما جرى استبعاد المشاريع المعدنية القائمة، التى تعتمد عليها ميزانية الدولة الأوكرانية. كما تم تضمين بند جديد ينص على التزام الولايات المتحدة بدعم جهود أوكرانيا للحصول على الضمانات الأمنية الكفيلة بحمايتها وإحلال السلام الدائم بينها وبين روسيا. غير أن تلك الاتفاقية لم تبصر النور؛ بجريرة تداعيات لقاء القمة العاصف، الذى جمع، ترامب وزيلينسكى، فى البيت الأبيض، نهاية فبراير الماضى.
فيما يعد تسليعًا للحماية الأمريكية؛ اقترح ترامب على زيلينسكى، تملك الولايات المتحدة محطات الطاقة النووية الأوكرانية وإدارتها، مقابل المساعى الأمريكية لإدراك اتفاق سلام بين موسكو وكييف. وتعهّد الرئيس الأمريكى، مساعدة الأخيرة للحصول على مزيد من أنظمة الدفاع الجوى الأوروبية، واستعادة الأطفال الأوكرانيين لدى روسيا. كما أكد أن سيطرة واشنطن على هذه المنشآت من شأنها توفير إدارة أنجع، وحماية أفضل للبنية التحتية الطاقوية الأوكرانية. كما ستتيح إعادة تأهيلها وتطويرها، بعدما تضررت بشدة، على خلفية الحرب. وفى مسعى منه لطمأنة الأوكرانيين، شدد ترامب على أن الاستثمارات الأمريكية فى قطاعات الطاقة والتعدين بأوكرانيا، ستكفل إنهاء الحرب، وتشكل ضمانا كافيا لمنع روسيا من غزوها مجددا. ورغم ريبة أوساط أوكرانية فى الجدوى الفورية للمقترح الترامبى؛ يستشعر خبراء فيه فرصة لتعزيز التعاون التقنى مع واشنطن، خصوصا فى مجال نقل التكنولوجيا النووية المتقدمة، وتدريب الكوادر الفنية المحلية. كما يتوسمون فيه تمهيد السبيل لإبرام اتفاقات تمويل دولية تنعش عملية إعادة الإعمار بعد الحرب؛ خاصة إذا ما انحسر الدعم الغربى لكييف.
• • •
من وراء مقاربته بشأن أوكرانيا، يبتغى ترامب تقويض النفوذ الروسى المتنامى. حيث يعتبر السيطرة على البنية التحتية الطاقوية الحيوية الأوكرانية، لا سيما القطاع النووى، فصلًا من صراع النفوذ الممتد بين واشنطن وموسكو. وبينما أعلن زيلينسكى، أنه ناقش مع ترامب مشاركته إدارة محطة زاباروجيا النووية فقط، وهى الأضخم فى أوروبا، والخاضعة للسيطرة العسكرية الروسية منذ مارس 2022، كانت شركة «وستنجهاوس» الأمريكية للتكنولوجيا النووية، قد وقعت اتفاقية مع الشركة النووية الحكومية الأوكرانية، «إنيرجو أتوم»، لبناء تسعة مفاعلات نووية. وبالنسبة لـ«وستنجهاوس»، كان هذا إنجازًا هائلًا بعد سنوات من النضال لاقتحام السوق النووية الأوكرانية، التى طالما هيمنت عليها شركة «روساتوم»، عملاق الطاقة النووية الروسى. وقد أثار استيلاء روسيا على محطة زاباروجيا مخاوف، وستنجهاوس، بشأن حقوق الملكية الفكرية، مع تصاعد احتمالات سرقة الروس أسرارها التكنولوجية.
علاوة على التحديات الأمنية واللوجيستية، تصطدم مقاربة ترامب حيال أوكرانيا بأخرى سياسية. حيث يحظر القانون والدستور الأوكرانيان، بشكل قاطع، خصخصة القطاع النووى؛ ويشددان على أن المحطات النووية «ملك للدولة والشعب». كما تُدار جميع المحطات النووية المرتبطة بالحقبة السوفياتية، وتزود البلاد بثلثى احتياجاتها من الكهرباء، عبر شركة «إنيرجو أتوم» المملوكة للدولة، وأكبر مصدر للإيرادات الحكومية. ويمثل أى طرح بشأن تغيير هذا الواقع، إشكالا سياسيًا جسيمًا؛ فى بلد لا تزال ذاكرته الجمعية مثخنة بجراح الفساد المصاحب لخصخصة القطاعات الاستراتيجية، إبان تسعينيات القرن الماضى. ومن غير المستبعد أن تفجر الضغوط الأمريكية لخصخصة القطاع النووى، أزمات داخلية طاحنة. فلقد أثار الغموض، الذى أحاط بمباحثات التملك الأمريكى المقترح، تساؤلات حول الجدوى العملية والقانونية. بدورها، شككت المعارضة الأوكرانية فى معقولية أن يكون تسليم قطاع استراتيجى لدولة أجنبية ضمانًا للأمن؛ معتبرة الأمر أشبه باستحواذ، أكثر منه حماية. كما تنظر إلى أية تنازلات فى القطاعات الاستراتيجية بوصفها مساومة على السيادة الوطنية. خاصة من لدن ترامب المتيم بتعظيم ثمن الحماية الأمريكية واشنطن لأوكرانيا. إذ يسعى لتوسيع الاتفاق المتعلق بمشاركتها معادنها الحيوية وأصولها الطاقوية، بما يخوله مضاعفة مغانم واشنطن الاقتصادية منها، مقابل إحلال السلام مع روسيا.
• • •
في خطوة مثيرة، لكنها لا تخلو من رؤية استراتيجية، كونها ستجعل من جمهورية الكونغو الديمقراطية شريكًا محوريًا فى إعادة رسم خارطة سلاسل التوريد العالمية للموارد الحيوية. أبدى رئيسها، فيليكس تشيسكيدى، أواسط الشهر المنقضى، استعداده لعقد شراكة مع الولايات المتحدة؛ تقوم على مبدأ "المعادن مقابل الأمن". حيث أعلن أن بلاده الغنية بالموارد الحيوية كمثل: الكوبالت، الليثيوم واليورانيوم، يمكنها الاستفادة من تعاون أمنى مع واشنطن لمواجهة الجماعات المسلحة المتمردة. بما يمكن الكونغو من استخراج ومعالجة ثرواتها المعدنية بالتعاون مع الشركات الأمريكية؛ مقابل التزام واشنطن دعم وتأهيل قدرات البلاد الدفاعية والأمنية. وتعهدها ممارسة ضغوط وفرض عقوبات على المتمردين، الذين يهددون الأمن ويقوضون جهود التنمية فى الكونغو الديمقراطية، التى تشهد اضطرابات حادة. حيث تخوض السلطات معارك ضارية ضد متمردى «حركة 23 مارس»، التى تمكنت من بسط سيطرتها على أراضٍ شاسعة بشرق البلاد، خلال الأشهر الأخيرة. وهى الاضطرابات، التى تشكل تهديدًا مباشرًا لصناعة التعدين، فى بلد يعد أحد أهم مصادر المعادن الاستراتيجية عالميًا. ما يجعل التعاون مع الولايات المتحدة خيارًا استراتيجيًا، لاستعادة الأمن وتعزيز الاستقرار الداخليين، وتأمين الاستثمارات العالمية فى قطاع اقتصادى حيوى.
• • •
تشكل تحركات ترامب حيال أوكرانيا والكونغو، خطوة استراتيجية على درب تعزيز أمن الإمدادات الأمريكية من الطاقة والمعادن الحيوية النادرة. تلكم التى باتت عماد الصناعات الإلكترونية، الأسلحة الاستراتيجية، وتكنولوجيا الطاقة المتجددة؛ ومحورًا رئيسًا فى التنافس الاقتصادى والجيوسياسى العالمى. فضلًا عن تقليص الاعتماد الأمريكى المقلق على الصين فى الحصول عليها ومعالجتها. فوفقًا لإدارة معلومات الطاقة، استوردت محطات الطاقة النووية الأمريكية 99% من اليورانيوم المُستخدم فى صنع وقود المفاعلات خلال عام 2023. وتوخيًا منه لتحرير تلك المعادن النادرة من الهيمنة الصينية المستميتة عليها؛ أكد ترامب انخراط بلاده فى بناء سلاسل توريد أكثر تنوعًا مع عديد دول. بموازاة التوسع فى إبرم الاتفاقات بشأن استخراج تلك المعادن وسواها من الموارد الحيوية فى مختلف أصقاع المعمورة. ويتوق ترامب كذلك لتكريس الهيمنة الأمريكية على أمن الطاقة العالمى، مقومات الصناعات الدقيقة والمتطورة ومستلزمات الذكاء الاصطناعى. لذا، قرر ترامب إعطاء الأولوية لإنتاج المعادن الحيوية على الأراضى الفيدرالية. إصدار أمر تنفيذى بإقامة منشآت لمعالجة المعادن داخل القواعد العسكرية الأمريكية. تعيين مسئول فيدرالى متخصص، للإشراف على تلك القطاعات.
لا ينأى توجه ترامب عن استراتيجيته الرامية إلى تخفيف الأعباء الأمنية والاقتصادية، التى تكبل استدامة الهيمنة الأمريكية. فلقد اعتمد مقاربة «الموازن من الخارج». وهى الاستراتيجية التى أصل لها «كريستوفر لاين» عام 1992، فى دورية «الأمن الدولى». كما نادى بها كلٌّ من «ستيفن والت»، و«جون ميرشايمر» عام 2016، فى مقالتهما المنشورة بمجلة «فورن أفيرز»، المعنونة «الدفاع عن استراتيجية الموازِن من الخارج: نحو استراتيجية كبرى أفضل للولايات المتحدة». حيث أجمع ثلاثتهم على أن مساعى واشنطن لتأبيد هيمنتها على النظام الدولى، تبقى باهظة الكلفة، ومحفوفة بالمخاطر. الأمر الذى يستوجب استدراج الدول الأخرى، للاضطلاع بدور فاعل فى احتواء التهديدات الأمنية، وتحمل نصيب الأسد من أعباء الحماية.
بين ثناياه، يطوى إصرار ترامب على تسليع الحماية الأمريكية عالميًا؛ تفسيرًا لتهافت دول عديدة حصيفة، من بينها مصر، على تقوية قدراتها الدفاعية، وتطوير إمكاناتها التكنولوجية. حيث تنشد صيانة أمنها، حماية مُقدراتها ومكتسباتها، تعزيز سيادتها الوطنية واستقلالية قراراتها الاستراتيجية. لا سيما تلك المتعلقة بإدارة مواردها، وتحقيق الاستفادة المثلى منها.

التعليقات