القمح.. حدوتة مصرية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 3:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القمح.. حدوتة مصرية

نشر فى : الإثنين 31 يوليه 2023 - 9:35 م | آخر تحديث : الإثنين 31 يوليه 2023 - 9:35 م

بجذورها المتشعبة، تضرب قصة المصريين مع القمح، فى عمق تاريخهم المديد. فتعبيرا عن حيوية دوره فى حياته، خصص المصرى القديم عيدا للقمح، يواكب موسم حصاده. وهو العيد الذى استوطن ذاكرة المصريين على مدى الدهر. حيث غنى له موسيقار الأجيال، محمد عبدالوهاب، بمشاركة المطربة، أحلام، فى فيلم «لست ملاكًا»، الذى أخرجه محمد كريم، عام ١٩٤٦، أغنية، نظمها الشاعر حسين السيد، وما برحت تشنف أسماعنا حتى يومنا هذا. وإبان العصر الرومانى، كانت مصر «سلة غذاء العالم». وفى زمن الإمبراطورية العثمانية، استعان الباب العالى بقمح مصر لإطعام جيوشه الجرارة، التى تجوس أصقاع المعمورة. وخلافا لسائر البشر، وفى دلالة بليغة على مركزيته فى حياتهم، يقحم المصريون القمح فى أسماء أبنائهم، بلدانهم وألوانهم؛ كما يطلقون على مخبوزه «العيش».
يعتبر الفيلسوف السويسرى، جان جاك روسو، الزراعة أفضل ضمانة لاستقلال الدّول، كونها عماد أمنها الغذائى. ويقول الشاعر والفنان اللبنانى، جبران خليل جبران: «ويل لأمّة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر». وبمضى الزمن، أضحى استقلال القرار السيادى للدولة، مرتهنا باستدامة قدرتها على استثمار إمكاناتها الذاتية، لتقليص فجوة طعامها، وحماية أمنها الغذائى.
تقاس الفجوة الغذائية للدولة بمقدار الفارق بين ما تنتجه وما تستهلكه من طعامها. وما إن بدأت مصر استيراد القمح عام 1951، حتى غدت المستورد الأول له عالميا؛ بإجمالى استهلاك عشرين مليون طن سنويًا، تنتج منها نحو 55% محليا، بينما تستوفى النسبة المتبقية من الخارج. وبرغم بلوغ الإنتاج المحلى عشرة ملايين طن هذا العام، بنسبة نمو 8%. وتراجع الواردات إلى 9.02 مليون طن، بنسبة انخفاض 39.5%. يصطدم ذلك الإنجاز بزيادة سكانية معدلها 2,04%، وعدد سكان يناهز 105 ملايين نسمة. لذا، استوردت مصر، خلال الفترة ما بين يناير ونوفمبر 2022، قمحا بـ3.9 مليار دولار، مقابل 3.18 مليار دولار فى الفترة نفسها من العام 2021، أى بارتفاع قدره 725 مليون دولار.
يبقى هذا الارتفاع مرشحا للزيادة، إثر تفاقم الاستهلاك المحلى خلال العام المالى 2023 ــ 2024، مع استمرار تدفق اللاجئين إلى أرض الكنانة من بقاع شتى، وارتفاع أسعار الحبوب عالميا، جراء رفض موسكو تجديد «مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب»، المبرمة مع كييف، بوساطة الأمم المتحدة فى يوليو 2022. علاوة على سلسلة الضربات الروسية ضد البنية التحتية لموانئ وصوامع القمح الأوكرانية. فمؤخرا، قفزت العقود الآجلة للقمح بمجلس شيكاغو للتجارة بنسبة 8.5%، لتبلغ 7.57 دولار للبوشل (27 كيلوجراما)، مسجلة أعلى مستوى منذ فبراير الماضى. كما حذر صندوق النقد الدولى من ارتفاع أسعار الحبوب بنسبة 15%، خلال الأسابيع المقبلة.
مع تزايد الضغوط على موازنتها، اضطرت مصر للاقتراض بغرض تمويل صفقات شراء القمح؛ حيث حصلت الشهر الماضى على 700 مليون دولار من المؤسسة الدولية الإسلامية، كما اتفقت مع صندوق أبوظبى للتنمية، على قرض قيمته 400 مليون دولار. يأتى ذلك بينما تتفاقم المشكلات المتعلقة بتوفير السيولة الدولارية لاستيراد القمح. وتتوالى مساعى البحث عن سبل مختلفة لتقليص الضغط على العملة المحلية، وضبط قيمتها مقابل الدولار، بما يدعم خطط تأجيل تخفيض قيمة الجنيه مجددا.
تتنوع أسباب الفجوة بين إنتاج القمح واستهلاكه؛ ما بين ارتفاع تكاليف زراعته، وإلغاء الدورة الزراعية، مع إحجام الفلاحين عن زراعته، جراء عجز تقاوى القمح عالية الإنتاج، وزيادة أسعار مستلزمات الزراعة، ونقص العمالة، وعدم حصول المزارع على جل مقرراته السمادية، أو تحديد سعر مجزٍ لشراء المحصول منه قبل الموسم بوقت ملائم. كذلك، تتضاءل مساحة الأراضى المزروعة، وشح مياه الرى، وتدهور خصوبة بعض الأراضى الزراعية، مع الاعتداء عليها بالتبوير، أو التجريف، والبناء. ناهيك عن تعرض المحصول للإصابة بأمراض مثل «صدأ القمح» و«الصدأ الأسود». كما تلامس نسبة الفاقد، الكمى والنوعى، التى تمر بها عمليات زراعة، حصاد، تخزين واستهلاك القمح 40%، تتكبد الدولة على إثرها نحو عشرة مليارات جنيه سنويا. فيما يتفاقم الهدر والتسرب داخل البرامج الحكومية لدعم الخبز.
يشكل السلوك الغذائى للمصريين تحديا تاريخيا؛ فباستهلاكه 130 كيلو من الخبز سنويا، يتخطى المواطن المصرى أربعة أضعاف المعدل العالمى، وقدره 35 كيلو.
فنتيجة لتواضع الحصة الغذائية لغالبيتهم من اللحوم والفواكه، يعتمد المصريون على الخبز، بشكل أساسى. إذ تنتج مصر 275 مليون رغيفا مدعما يوميا، تستقطع 90 مليار جنيه من موازنة السنة المالية الحالية، ويستفيد منها أكثر من 62 مليون مواطن. الأمر الذى يستوجب تعديلا فى ثقافة المصريين الغذائية، عبر زيادة استهلاك الخضراوات، البطاطس، وغيرها، مقابل تقليص الاعتماد على الخبز، المعجنات، ومنتجات القمح الأخرى. كما يمكن معاودة خلطه بالذرة، مثلما كان الفلاحون يفعلون حتى منتصف القرن الماضى، لاسيما وأن رغيف الذرة أفضل من حيث قيمته الغذائية والصحية.
على الرغم من التحديات آنفة الذكر، لا تتوانى الدولة المصرية عن بذل جهود جبارة لإنجاح استراتيجية تضييق فجوة القمح، وذلك من خلال تحقيق مستهدفات استراتيجية التنمية الزراعية المستدامة ضمن رؤية مصر 2030. حيث تسعى الحكومة إلى إدراك ما يسمى «حد الأمان»، الذى يتأتى من أمرين: أولهما، إنتاج 70% على الأقل من الاستهلاك المحلى للقمح. وثانيهما، توفير مخزون استراتيجى لمدة لا تقل عن ستة أشهر.
وتوخيا لذلك المقصد، جاءت مشروعات التوسع الأفقى، بغية زيادة الرقعة الزراعية، عبر التوسع فى زراعة القمح المصرى، الذى يعد من أفضل وأجود أنواع القمح عالميا؛ حيث وصل إجمالى مساحة الأراضى المنزرعة عام 2022/2023 إلى 3.2 مليون فدان. علاوة على التوسع فى الميكنة الزراعية لتقليل الفاقد، وخدمة صغار المزارعين. بالإضافة إلى تقديم خدمات المكافحة أمراض القمح، وغيرها من أساليب الزراعة المتقدمة، ورفع كفاءة منظومة الصوامع والتخزين، من خلال المشروع القومى للصوامع، الهادف إلى زيادة القدرات التخزينية وتقليل الفاقد، بما يسهم فى تأمين المخزون الاستراتيجى. فقد تم تشييد 75 صومعة، بسعة تخزينية 3.6 مليون طن، وجارٍ بناء ستين صومعة حقلية بسعة عشرة آلاف طن للواحدة، فضلا عن سبع مستودعات استراتيجية، فيما تم تحويل 105 شون ترابية إلى هناجر مطورة بطاقة تخزينية 211.5 ألف طن. وذلك بقصد الارتقاء بالمخزون السلعى إلى تسعة أشهر، بدلا من ستة.
أما عن مشروعات التوسع الرأسى، المعنية بتحسين الإنتاجية، فتشمل توفير التقاوى المعتمدة. واستنباط وهجن وتسجيل خمسة أصناف قمح جديدة عالية الإنتاجية، مبكرة النضج، تتحمل التغيرات المناخية، ومقاومة للأمراض، لتصل بإنتاجية الفدان إلى أكثر من 20 إردبا. بجانب التوسع فى إنشاء الحقول الإرشادية، بالمناطق الأكثر زراعة للقمح، ابتغاء توعية الفلاح. والتحول إلى الزراعة على المصاطب، والرى بالتنقيط، بدل الغمر. وتقديم حوافز لتشجيع المزارعين على توريد القمح، عبر إقرار سعر ضمان، مع تحريكه بما يناسب ظروف السوق، وإعلانه قبل موعد الزراعة بشهرين. إضافة إلى تخصيص نقاط تجميع على مستوى الجمهورية لاستلام القمح، بالقرب من المزارع، لتقليص مشقة التوريد وكلفته.
وفى مسعى منها لطمأنة المواطنين جراء تجميد روسيا اتفاق الحبوب، قللت الحكومة من تأثير هذا الأمر على مخزون القمح المصرى. كونه يتزامن مع موسم توريد القمح المحلى، الذى يشهد ارتفاعًا ملحوظًا هذا العام. حيث تسلمت الحكومة 3.8 مليون طن، تمثل أكثر من 90% من الكمية المستهدفة للتوريد. وثانيهما، ارتفاع الاحتياطى الاستراتيجى من الأقماح بما يلبى احتياجات البلاد حتى نهاية العام. حيث تحوى المخازن 56%من حجم الاستهلاك القمح السنوى، بعدما اتخذت الحكومة خطوات استباقية بشأن تنويع مصادر استيراد القمح من فرنسا، ألمانيا، رومانيا، الهند، بلغاريا والولايات المتحدة.
بموازاة ذلك، تمضى الحكومة فى مبادرات خلاقة، من قبيل: التوسع فى استصلاح الأراضى القابلة لزراعة القمح، إذ بلغت المساحة المزروعة هذا العام 3.659 مليون فدان، تمثل نحو ثلث إجمالى الرقعة الزراعية للبلاد. ومن الصعوبة بمكان زيادة المساحات المخصصة لزراعة القمح، إلا من خلال الأراضى المستصلحة. لاسيما وأن هناك محاصيل غذائية شتوية أخرى، يتعين الاستمرار فى زراعتها، سواء لتلبية الطلب المحلى، أو لمواصلة التصدير. وفى خضم هذه التحركات، حرى بالحكومة دراسة إمكانية زراعة القمح فى الدول المجاورة، التى تتوافر بها المياه، والأراضى الشاسعة الصالحة للزراعة، مثل السودان. كما يجدر بها إنشاء «مجلس أعلى للقمح»، يضم أكفأ المختصين والمعنيين، تحت قيادة وإشراف رئيس الجمهورية، كيما يضطلع بمهمة وضع وتنفيذ الخطط والبرامج الكفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح، فى أقرب وقت ممكن.

التعليقات