بدا صديقى الزملكاوى مرتابا حين هنأته بفوز فريقه بالدورى، رفع حاجب الاستهزاء الأيسر ورمقنى بنظرة مستنكرة، قبل أن يشيح بوجهه يمينا ويسارا ممصمصا شفتيه ولسان حاله يقول: «كذاب فى أصل وشك».
هذه ظاهرة لافتة فعلا، أنا من تربيت على تعليقات الكابتن لطيف وعلى زيوار وحسين مدكور على مباريات كرة القدم، تعلّمت أن أشجع الزمالك بحماس وأتمنى له الفوز حين يلاقى فريقا أجنبيا، كان فوز الزمالك فى مباراة إفريقية انتصارا لمصر، وقتها سيرفع اللاعبون علم بلادى يطوفون به أرض الملعب، وتتلاشى الرايات الحمراء والبيضاء والصفراء والزرقاء، ستتوارى انتماءاتنا الصغيرة لصالح الانتماء الأكبر، سيصير الكل فى واحد.
ليس هذا كلام إنشاء، هذا ما تفتح وعينا عليه، ومن أسف أن الأمر لم يعد كذلك.
صرت تسمع هتافات الفرح والشماتة الأهلوية حين يسجل فريق إفريقى هدفا فى مرمى الزمالك، صار بديهيا أن تسمع من مشجع زملكاوى هذه العبارة على ما فيها من مبالغة وشطط: لو الأهلى بيلاعب إسرائيل هشجع إسرائيل.
تشيع هذه الحالة بين مشجعى كرة القدم من الأجيال الأصغر سنا، ولاحظت أخيرا أنها بدأت تنتقل مثل عدوى فيروسية، لمشجعين فى العقد الخامس أو السادس من العمر.
كيف وصلنا إلى هذه الحالة، هل للأمر علاقة بالإعلام الرياضى والسباق المحموم نحو مزيد من الإثارة وتسخين الأجواء، طمعا فى توسيع دائرة المتابعين وزيادة نسبة المشاهدة فى الفضائيات والصحف، وما يتبعها بالضرورة من حملات إعلانية تنعش جيوب الملّاك وترفع أسهم الإعلاميين وتزيد أجورهم؟.
هل للأمر علاقة بهذه الكائنات الشيطانية التى ابتليت بها ملاعبنا فى السنوات الأخيرة والمسماة «ألتراس»، والتى أشعلت نيران التعصب المقيت بين الجماهير، وحوّلت مباريات الكرة من فرصة للترويح والمتعة والفرح، إلى مناسبة للبذاءة والنكد والغم والصدام إلى حد القتل؟
هل للأمر علاقة بالتحريض المجانى الذى يطفح به فيسبوك وتويتر وما يستجد من وسائل التواصل الاجتماعى التى أسىء استخدامها كما هى عوايدنا مع كل منجز عالمى، فحولناها إلى وسائل للتفكك الاجتماعى وتقطيع الروابط حتى بين أبناء الأسرة الواحدة؟
قد يكون هذا كله أو بعضه صحيحا.
لكننى أريدك أن تدع التطرف فى الملاعب جانبا، وأن تلقى نظرة أوسع على حالات أخرى من التعصب لا تقل خطورة، وأن تستبعد منها «الحالة الإخوانية» حيث ولاء الفرد فيها لجماعته يسبق أى ولاء، وحيث لا وجود لفكرة الوطن والمواطنة من الأساس، فالوطن «حفنة تراب عفنة» بتعبير سيد قطب، والمواطنة هى فى أوهام الخلافة ورفعة التنظيم، وهى أمور قد يتفق فيها الإسلامجية فى عمومهم، وإن بدت أكثر وضوحا فى الحالة الإخوانية، بعد سنة «التمكي» لا أعادها الله.
التعصب للقبيلة، التعصب للمهنة، التعصب للإقليم، التعصب للعائلة، التعصب للوسط الاجتماعى فقرا أو غنى، شواهد نعايشها ولا يجوز إنكارها، يعود بعضها إلى موروث اجتماعى، وبعضها الآخر إلى أسباب تتعلق بارتفاع نسبة الأمية والفقر وتدنى مستوى التعليم والثقافة فى المجتمع.
لكن السبب الرئيسى برأيى ربما يعود إلى غياب الدولة حين ينبغى أن تحضر، إلى انسحابها عن أداء أدوارها، ما سمح لآخرين بمحاولة ملء هذا الفراغ، وخلق انتماءات موازية.
الانتماءات التقليدية تظهر حين تسود المجتمع حالة من انعدام الثقة، فيلوذ الفرد بعائلته أو قبيلته أو جماعته الدينية أو وسطه الاجتماعى، طلبا للحماية وأملا فى الخلاص، أما إذا استعادت الدولة عافيتها وكسبت ثقة مواطنيها، وملأتهم شعورا بقوتها وانحيازها لقيم العدالة والمساواة واحترام القانون، فإن الانتماءات التقليدية تتوارى لصالح الانتماء الأكبر، ويصبح جميع أبنائها «مواطنين تحت العلم».
أتطلع إلى يوم نصبح فيه جميعا مواطنين تحت العلم.. وأراه قريبا بإذن الله.