نجيب محفوظ.. حَيْرة المفكر ووَلَه الصوفى! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 4:47 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نجيب محفوظ.. حَيْرة المفكر ووَلَه الصوفى!

نشر فى : الجمعة 31 أغسطس 2018 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 31 أغسطس 2018 - 9:05 م

وها هى الذكرى الثانية عشرة لرحيل نجيب محفوظ، تحل علينا ليست كغيرها من مناسبات التذكر والرحيل واجترار الذكريات، كتبت كثيرًا عن نجيب محفوظ، ولا أملُّ أبدا من الكتابة عنه، ولا عن سيرته وأعماله؛ لأننى بالأساس لا أفارق كتابته منذ تعرفت عليها قبل ما يزيد على ثلاثين عامًا. وأرصد منذ سنوات الإقبال غير العادى من أجيال وأجيال على قراءة نجيب محفوظ والتعرف عليه واكتشاف قيمته؛ إنهم يعيدون اكتشاف العظيم نجيب محفوظ ويعيدون قراءته واستلهام قيمته وإنجازه وأثره فى زمن عزّ عليهم أن يدركوا القيمة وأن يتعرفوا عليها!
الذى ولد يوم حصل محفوظ على نوبل عام 1988 أتم الثلاثين من عمره هذا العام. والذين ولدوا يوم تعرض للاغتيال فى أكتوبر عام 1994 تجاوزوا العشرين من أعمارهم بقليل. والذين ولدوا بعد أن مات محفوظ فى 30 أغسطس 2006 أتموا الآن الثانية عشرة من أعمارهم.
ما الذى تعنيه هذا الأرقام وهل تحمل أى دلالات على الأقل بالنسبة لصاحب هذه السطور؟
أكاد أجزم بأن نَعم. نحن بإزاء ثلاث موجات تقريبًا من الأجيال (من حيث السن) أحدثها لم يرَ محفوظ ولم يشاهده لكن الغريب أن يكون محفوظ؛ أدبه وسيرته وقيمة ما قدمه للوطن والإنسانية أحد اهتمامات هذا الجيل وتطلعاته الأدبية والمعرفية (دليلى فى هذا محاولات متواضعة للرصد والقراءة والتمثيل على السوشيال ميديا).
ثمة جيلان آخران يضمان شرائح لا بأس بها يعتبرون محفوظ قامة أدبية ومعرفية وإنسانية لا تقل فى أثرها ولا رسوخها عما يمثله «جوته» للألمان مثلا، أو «دانتى» للإيطاليين، أو «شكسبير» أيقونة الإنجليز الكبرى..
رغم الغياب والإهمال المتعمد ورغم حملات التشويه والكذب والقصور الفادح من المؤسسة الرسمية فى الاعتناء برمزها الأدبى الأكبر فى التاريخ الحديث والمعاصر، ما زال محفوظ «حيًا»، «باقيًا»، «حاضرًا»، يقبل على قراءة إبداعاته أجيال جديدة ويعيد اكتشافه فى مصر والعالم العربى عشرات الآلاف (لا أدعى أكثر من ذلك! لكن ربما يكون أكثر من ذلك أو هذا ما أتمناه).
حينما ظهر محفوظ على الساحة الأدبية فى أربعينيات القرن الماضى كان كمن يمسك بعصا موسى التى أكلت ما قبلها. لا بمنطق الإقصاء ولا التدمير ولا الإخفاء. أبدا. لكن كانت قراءة أعماله تعنى حدوث تغير جذرى فى الذائقة الأدبية والجمالية لدى قراء هذا الأدب. ثمة إجماع بين شرائح وقطاعات وأفراد يتفاوتون فى درجة التعليم والثقافة والوعى والعمر بأن قراءة نجيب محفوظ قد غيرت كل شىء وأحدثت ما يسميه البعض تحولا فى تراتب الوعى الجمالى لديهم.
يقول الناقد محمد بدوى، وهو من أكثر النقاد اقترابًا ومعايشة وإنصاتًا لعالم نجيب محفوظ، إن صاحب الثلاثية بالنسبة إليه هو «صائغ الهوية من منظور ديموقراطى تعدّدى، صنع روزنامة خاصة به ولم يكتب أحد مثله».
نعم. لم يكتب أحد مثله حتى الآن، وربما لم يظهر من يكتب بعده مثل ما كتب حتى الآن! لقد قدم نجيب محفوظ للوطن والثقافة العربية وللإنسانية كلها أكمل مشروع أدبى؛ روائى وقصصى، ظهر باللغة العربية فى القرنين الأخيرين حتى اللحظة.
إن نجيب محفوظ هو آخر روائى بألف لام التعريف ظهر حتى الآن. الروائى الأخير الذى كان يمتلك مشروعًا كاملًا متكاملًا؛ يصفه بدوى بـ «المشروع الأكثر اكتمالًا روائيا»؛ لأنه هو الذى قدم أعلى صياغة أدبية لفكرة «الهوية» فى المجتمع المصرى. ويقول الناقد الراحل الكبير شكرى عياد «إن عبقرية نجيب محفوظ مركبة من حَيْرَة المفكر ووَلَه الصوفى، ونسيج فنّه مُؤلّفٌ من تجارب المصرى، القاهرى، ابن البلد المثقف من الجيلِ الذى وُلد على مفرق الطرق بين تقاليد العصور الوسطى وطموح العصر الحديث، وشب واكتهل وهو لا يزال يتساءَل عن حقيقة وجوده بين الشرق والغرب، وعاش حتى رأى عالمًا يكادُ يفقد صوابه فى حُمّى الصراع المستميت ورعب القنابل الذرية..
وأقول أيضا إن نجيب محفوظ، بمعنى من المعانى، هو خلاصة مقطرة، صافية ومتجددة، لما قدّمته مصر الثقافة والحضارة للبشرية كلها، سجًّلا تاريخيًّا اجتماعيًّا أدبيًّا، يجد فيه كل من أراد بُغيَته وطلبهَ، فأدبه ورواياته وقصصه تتسع للجميع، وترحّب بكل طالب، وتمنح نفسها راضية لكل باحث عن آفاق لا تحد من المعرفة الإنسانية.