لم تبالغ هذه المرة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لم تبالغ هذه المرة

نشر فى : الثلاثاء 31 ديسمبر 2019 - 11:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 31 ديسمبر 2019 - 11:20 م

«أنا بخير.. أعرف أن بالك انشغل، ولكن لا شك تذكر أننى نبهتك إلى أن منصبى الجديد سوف يضيق الخناق على أوقات فراغى، هذه الأوقات التى كانت تسمح لنا بلقاءات ممتدة ومكالمات فى الصباح الباكر وفى الليل المتأخر. كنت وأنا أودعك أودع أيضا تلك الأوقات. لم يكن الفراق وحده مصدر قلقى، إنما كان الفراق وظروفى العائلية التى بدأت تتعقد وضخامة المسئولية التى سوف تُلقى على عاتقى منذ أول يوم أتقلد فيه مهام المنصب الجديد. أستأذنك فى دقيقة واحدة أترك الهاتف مفتوحا عليك وأذهب إلى غرفتى لأحضر وسادتى التى أرتاح لها وترتاح لى فالحديث بيننا كالعادة يطول».
***
غابت أكثر من دقيقة. تذكرت أن آخر غياب لها بدأ باستئذان لدقيقة واستمر أربع سنوات. لم يدر حتى بخلدى أنها يمكن أن تغيب مرة أخرى لمدة هكذا طويلة فصوتها أنبأنى برغبة فى أن تتكلم وتتكلم. نعم أذكر جيدا لقاءنا الأخير قبل توليها المنصب. كنا فى مطعم حديث الافتتاح فى حى المهندسين نشترك هى وأنا فى أريكة جلسنا عليها وأمامنا إفطارها المكون من «أومليت» بلون ذهبى أنيق ومكعبات صغيرة من بطاطس حارة وأمامى صحن به أذكى ما اشتهر به هذا المطعم، حامل أحد الأسماء العتيدة والمحترمة فى باريس، العاصمة التى عرفت كيف تقرن الطعام بالثقافة فى أى مكان يتصادف أن يوجدا فيه معا دون أى حرج لأى منهما. خرجنا إلى الشارع حيث وقفنا لثوان تبادلنا خلالها عبارات وشعائر توديع تتناسب مع المكان والسفر البعيد وفضول المارة. وعدتها باتصال هاتفى خلال يومين ونفذت الوعد.
***
«تلقيت رسالتك التى بعثت بها إلى أى من كان تسأل عنى. من أوروبا وصلتنى ومن الجونة وأسوان والأمريكتين. انشغل بالك بطبيعة الحال ولم نتعود على أن يغيب أحدنا عن الآخر أكثر من أسابيع معدودة نعود بعدها بكل الأخبار. عدت مرة من غياب لأبلغك ان ابنتى نجحت فى امتحانات القبول بجامعة معتبرة. ومن غياب آخر حملت لك أنباء غير سارة عن مرض أبى الذى كما تعلم قدر مكانته فى حياتى. غبت مرة ثالثة انشغلت وقتها فى إدارة واحدة من أشد أزمات زواجى شراسة. تعرفها جميعا. تعرف كيف كانت تبدأ وكيف ومتى انتهت، أو بكلمة أدق، كيف أجلنا مصيرا كان منذ البداية محتوما ولكننا رغم نصيحتك راوغنا وزيفنا مشاعر وخضعنا لدموع طفلين وتوسلات جدين.
أسمع زفرات تكشف عن قلقك. ما ذنبك؟ أرى مسوح آلام تكسو وجهك مع كل سعلة تسمعها وهى تجرح حلقى بعد أن أنهكت صدرى. اخفيت سيرتها عنك شهورا. تصورت أنه لن تفوت عليك جدية حالتى المرضية، وأدركت الآن أن تصوراتى كانت محقة. حدث ما توقعت. أضفت إلى القلقين من المحبين محبا. ألم يكن أفضل لك ولى أن أستمر أخفى عنك آلام عظامى وأوجاع صدرى وتقلصات عضلات وجهي؟. ها أنت تسمعها فى سعلاتى وتأوهاتى وأنفاسى المتقطعة فما الفائدة لك، ما الجدوى؟. لماذا فى التقاليد يصرون على إعلام الغائب البعيد؟ أنت الآن غير غائب ولكنك بعيد. لا تستطيع أن تفعل شيئا لا يفعله العلاج الذى أخضع له. فكرت للحظة أنه بالخيال يمكننى أن آتى بك إلى هنا حيث أقيم بعيدة عنك، مرة أخرى أقول وما الجدوى؟. لن توقف باقترابك أو حتى باحتضانى آلام صدرى. بالتأكيد سينالك من قسوة الألم الشيء غير القليل. أنسيت كم أعرفك وقدرتك على أن تشارك بالفرحة الهادئة ثم الصاخبة أفراح من تحب وأن تحمل نصيبك من الألم وبخاصة من آلام من اخترت من بين ألوف البشر لتحب؟. أنسيت كم كان عمرى عندما عرفتك!».
***
كانت على أبواب العشرين من عمرها. عينان واسعتان وأهداب لا تهدأ وجسم فارع وشعر يختفى جله تحت ما سمى زورا بحجاب. عرفتها مقبلة على حياة، صاغت مشاهد مرحلة شبابها بنفسها دون ما حاجة إلى معلم أو مرشدة. لم تتردد فى طلب الرأى والمساعدة لا عن حاجة أو رغبة ولكن لإرضاء من هم فوق عمرها. لم تنشئ علاقات وثيقة مع قرينات وأقران من عمرها. حذرتها إن هى استمرت تبالغ فى وصف كل ما تملك وكل ما تشعر به وكل ما تريد أن تفقد صدقيتها. تبالغ فى التزام واجبات الدين وفروضه وتبالغ فى إزاحة الحجاب كثيرا إلى الوراء. تبالغ فى محاولات جذب اهتمام الشبان والرجال وفى الوقت نفسه تبالغ فى اختيار أساليب رفضها لهم وطردهم من حياتها. تهلكهم ركضا وتتدفأ بنيران غيرتهم وحجتها أنهم إذا تعبوا راحوا وراء غيرها فترتاح وتريح. ذات مرة فى أعقاب هروب شاب أنهكته حتى قطعت أنفاسه وآماله فيها ولم تتجاوز وقتها الرابعة والعشرين همست بالقول، أليس ما فعلته به نفس ما تفعله الغزالة مع صائديها؟، سألتها ولكنك تبالغين فى أساليب إنهاك الرجال، أجابت والصيادون يبالغون فى المطاردة والكشف عن رغبات ناعمة بعض الوقت ونية الافتراس بقية الوقت.
***
تسارعت حتى تقاربت السعلات. أعفيتها من الاستئذان وإنهاء المكالمة وفى الحقيقة لم يعد فى إمكانى الاحتفاظ بوقار العمر المتقدم حتى لا أندفع فى هبة انفعال لضيق أو قلق أو حزن. قاومت. اقتصدت فى الإطراء المعتاد والوعود وتجديد العهود. توقف القلب عن تزويد لسانى بحلو الكلام. أعرف أنها انتبهت إلى ما يدور فى ذهنى. قررت أن تتحمل مشقة النطق بتحية التوديع فقالت «اطمئن يا رجل فالطب يتقدم وخلال أيام أو شهور سيتوصلون لعلاج وبعدها تجدنى أمامك كما عهدتنى. انتظرنى ولا تذهب بعيدا. أريد أن أعوض كلانا عما فاتك وفاتنى وستساعدنى. أليس كذلك؟».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي