لا يُعد مشهد تزيين الشوارع بحلوى المولد مشهدًا جديدًا على المصريين، بل هو طقس متوارث عبر أجيال طويلة، ارتبط بالاحتفالات الشعبية والروح المصرية الأصيلة. فمنذ قرون بعيدة، عبّر المصري عن فرحته بالمولد النبوي عبر صناعة الحلوى وتوزيعها، لتصبح جزءًا من ملامح الثقافة والذاكرة الجمعية التي تميز مصر عن غيرها من البلدان الإسلامية.
وفي هذا السياق، توضح سميرة عبد القادر، مؤرخة الطعام وصاحبة "مبادرة توثيق المطبخ المصري", حقيقة نشأة هذه التقاليد والرموز المرتبطة بها.
* ابن طولون أول من احتفل بالمولد.. وليس الفاطميين
توضح سميرة أن من أكثر المعلومات الخاطئة شيوعًا، هو الاعتقاد بأن الفاطميين كانوا أول من احتفل بالمولد النبوي، في حين أن المصادر التراثية تشير إلى أن الاحتفالات التي نعرفها اليوم لم تبدأ مع الفاطميين كما يُشاع، بل كانت موجودة في مصر منذ العصر الطولوني.
فقد كان أحمد بن طولون أول من نظم احتفالًا بالمولد النبوي في القرن التاسع الميلادي، حيث أقام موائد عامرة امتدت عبر الشوارع، تضم أصنافًا متنوعة من الأطعمة والحلوى. أي أنه سبق الفاطميين بقرون، أما الفاطميون فقد طوروا هذه المظاهر واهتموا بإبرازها وتوسيع نطاقها، لكنهم لم يكونوا المؤسسين الأوائل لها كما يظن البعض.
* الأصول المصرية للعديد من الحلويات
تضيف سميرة أن العديد من أنواع الحلوى تعود أصولها إلى مصر، رغم أن الكثيرين لا يعلمون ذلك. ومن أبرز الأمثلة: الملبن، والذي كان يُعرف قديمًا باسم "الصابونية"، وورد ذكره في كتب التراث الغذائي مثل "كنز الفوائد في تنويع الموائد"، ما يؤكد جذوره المصرية قبل أن ينتقل إلى بلدان أخرى ويُعرف بأسماء مختلفة.
من أقدم الحلويات التي ظهرت في مصر أيضًا تلك المصنوعة من المكسرات والعسل، مثل اللوزية والفولية، إذ كان المصريون القدماء من أوائل الشعوب التي أتقنت صناعة العسل واستخدامه في الحلوى.
كما تفردت مصر بابتكار حلويات ما زال لها أثر عالمي حتى اليوم، من أبرزها المارشميلو، أو ما يُعرف في حلاوة المولد بـ "القشطة"، وهو في أصله اختراع مصري خالص.
* العروسة والحصان.. رموز مصرية خالصة
من الطقوس المصرية الشهيرة المرتبطة بالمولد، والتي حرصت سميرة على توثيقها من خلال مبادرتها، عروسة المولد والحصان، باعتبارهما من أبرز مظاهر الاحتفال في مصر.
وتشير إلى وجود روايات متعددة حول أصل هذه العادة:
- رواية تعيدها إلى أصول فرعونية مرتبطة بـ"حتحور"، ربة الحب والجمال.
- رواية أخرى تربطها بالعصر الفاطمي، عندما خرجت زوجة الحاكم بأمر الله في موكب المولد مرتدية زيًا أبيض وتاجًا من الياسمين، فقام صناع الحلوى بتجسيدها في قالب من السكر.
- وهناك أيضًا رواية تربط ظهورها بـالخليفة المستنصر بالله، الذي وعد جنوده بالزواج بعد النصر، فجسدوا ذلك بصناعة عرائس من الحلوى.
ورغم اختلاف هذه التفسيرات، فإن المؤكد أن عروسة المولد عادة مصرية قديمة متوارثة، تتفرد بها مصر عن سائر البلدان الإسلامية. كما وثقت المصادر التاريخية ما يُعرف بـ"العلاليق"، وهي حلوى تُشكل على هيئة العرائس والخيول، وكانت جزءًا أصيلًا من المظاهر الاحتفالية المصاحبة للموالد عبر العصور.
* تنوع الاحتفالات في المحافظات
تشير سميرة إلى أن مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي لم تكن موحدة في كل المناطق، بل اختلفت تبعًا لموقع المدن وأهميتها بالنسبة لمراكز الحكم:
ففي الصعيد وبعض مناطق الدلتا والسويس، كان الأهالي يقيمون حلقات ذكر ويوزعون صواني الفتة واللحوم.
في الإسكندرية، ارتبط الاحتفال حتى اليوم بتوزيع الشربات بالموز، لأنه كان رمزًا للبهجة في المناسبات المصرية.
أما مدينة طنطا، فقد اشتهرت بحلوياتها المميزة، لأنها كانت مركزًا مهمًا في الدلتا خلال الحكم الفاطمي، وانتقل إليها عدد كبير من العمال والحلوانية، ما جعلها حتى اليوم من أبرز مدن صناعة الحلوى في مصر.