بملامح حزينة تبدو عليها الصدمة من هول الفاجعة، استقبل مدير مجمّع الشفاء الطبي الدكتور محمد أبو سلمية، خبر استشهاد عدد من أفراد عائلته جراء جريمة قوات الاحتلال الإسرائيلي، والذي قصفت طائراته منزل عائلة الطبيب في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، مواصلة عدوانها العسكري الهمجي على أحياء متفرقة من المدينة، وفي إطار مخططها الإجرامي لتدمير المباني وتهجير السكان.
وتأتي جريمة الاحتلال، بعد رفض أبو سلمية، بشكل واضح وصريح كل محاولات وقف العمل بمجمع الشفاء والنزوح إلى الجنوب، ومطالبته المتكررة بتوفير الحماية الدولية للمستشفيات في غزة.
فقبل أيام قليلة فقط، حذر مدير مستشفى الشفاء من تجاوز الوضع لوصف «الكارثة» إذا تواصلت عملية احتلال مدينة غزة، لأن 800 ألف فلسطيني لا يزالون في المناطق الغربية من المدينة، مما يعني سقوط عشرات الآلاف يوميا إذا مضت إسرائيل في هجومها.
وناشد الطبيب الفلسطيني في مداخلة مع قناة «الجزيرة» «ما تبقى من ضمير العالم» سرعة وقف الحرب وفتح الممرات الإنسانية، وإدخال المساعدات والمستلزمات الطبية لإنقاذ المدنيين الذين قال إنهم يموتون «جوعًا وقصفًا ومرضًا».
ويسعى الاحتلال للقضاء على القطاع الصحي بشكل كامل عبر استهداف المستشفيات المتبقية، تزامنا مع قصف الناس في الشوارع ومن كل اتجاه، حتى أحال المدينة جحيما وأصبح الناس يهيمون على وجوههم، كما يقول أبو سلمية.
ويعد «أبو سلمية» من أبرز وجوه الصمود في غزة، فقد اعتقلته قوات الاحتلال في بداية حرب الإبادة التي اندلعت 7 أكتوبر 2023، أثناء عملية إجلاء الجرحى والطواقم الطبية من المجمع الطبي، الذي تعرض لحصار واقتحام من الجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت.
وقضى الطبيب الفلسطيني حينها 7 أشهر في سجون الاحتلال، تعرض خلالها للكثير من الإهانات القاسية والتعذيب الشديد، وتعامل معه جيش الاحتلال كقائد عسكري وليس كطبيب ومدير مجمع طبي يقدم خدمة إنسانية.
ويقول أبو سلمية، في تصريحات تليفزيونية سابقة، إن جيش الاحتلال كان يشعر بـ«فرحة غامرة» بعد اعتقاله وكأنه حقق إنجازًا لا يوصف، وأصر المحققون خلال تواجده في السجن على أن المجمع «قاعدة عسكرية»، إلا أنه تمسك بحقيقة أن المستشفى مؤسسة خدمية إنسانية طبية.
وأكد أن خروجه من السجن بدون أي لائحة اتهام في يوليو العام الماضي، دحض كل مزاعم الاحتلال بخصوص المجمع، ونسف روايته الزائفة، قائلًا: «تحررت من السجن بمزيد من التصميم والإصرار على العودة للمجمع؛ لأنني وجدت حب الناس والتعاطف أكثر مما كنت أتوقعه، ولذلك لم أتردد في العودة وتقديم الخدمة للناس، ورفضت عرضا بمنصب أعلى من إدارتي للمجمع وفضلت العودة إليه لتعزيز صمود الناس».
في مقطع سابق نشره الصحفي الراحل الشهيد أنس الشريف، وصف الطبيب الفلسطيني خروجه من سجون الاحتلال بـ«المعجزة»، مشيرًا إلى أنه لا يصدق أنه موجود الآن في مدينة غزة.
وأرفق الشريف، مقطع الفيديو بتعليق كتب فيه: «برفقة الدكتور العظيم محمد أبو سلميّة، مدير مجمع الشفاء الطبي، بعد خروجه من سجون الاحتلال، حيث لمست في عينيه صمودًا لا يُكسر، وإرادة لا تُهزم، رغم ما تعرض له من اعتقال وتعذيب، لا يزال يحمل همَّ الجرحى والمرضى، متمسكًا برسالته، ثابتًا في موقفه، وفي قلبه إيمان لا يتزعزع بخدمة شعبه».
يكرس أبو سلمية، حياته لخدمة المرضى ووفاء لأهل مدينته، ووصف اللحظة الأولى التي شاهد فيها مجمع الشفاء الطبي بعد تدمير قوات الاحتلال له بـ«المأساوية». وقال في تصريحات سابقة: «أنا لا أبكي كثيرا وعندي من الصبر والجلد الكثير، ولكن عندما رأيت المجمع بهذا الدمار النابع من حقد كبير، بكيت بكاء شديدا لم أبكه عندما توفي أبي وأمي، وهما الأغلى على قلبي».
ولد محمد محمد عبد الحليم أبو سلمية، وكنيته «أبو خالد»، يوم 18 أكتوبر 1973، في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، لأبوين تعود أصولهما إلى قرية الجورة في عسقلان.
درس الطب في العاصمة الأوكرانية كييف في جامعة بوجوموليتس الطبية الوطنية، وذلك بسبب منع الاحتلال الإسرائيلي ترخيص أي كلية طب أو صيدلة داخل القطاع، وتخصص أبو سلمية في طب الأطفال ثم عاد إلى قطاع غزة عام 1998. وحصل على البورد الفلسطيني في طب الأطفال عام 2013.
وعمل أبو سلمية، منذ تخرجه وعودته إلى فلسطين في عدد من أهم مستشفيات قطاع غزة، فبدأ عام 2000 العمل طبيبا في مستشفى غزة الأوروبي في خان يونس حتى عام 2004، ثم عمل في مستشفى النصر للأطفال حتى 2013، وتولى منصب المدير الطبي للمستشفى نفسه عام 2007.
وفي عام 2015، تولى إدارة مستشفى الرنتيسي للأطفال. وأواخر يوليو 2019، أصبح مديرا لمجمع الشفاء الطبي، أكبر مؤسسة طبية داخل قطاع غزة، والذي يتمسك بإدارته إلى اليوم في مواجهة سياسة الاحتلال الممنهجة التي تهدف إلى شل القطاع الصحي في غزة.