- فيلم كولومبي ساخر ومؤلم يضع الفن في مواجهة اليأس
- مرآة دقيقة لخيبات مجتمع مأزوم يعيش بين الإبداع والخذلان
استطاع الفيلم الكولومبي «A Poet» (Un Poeta) للمخرج سيمون ميسا سوتو الذى عرض على شاشة مهرجان الجونة السينمائى والحاصل على جائزة لجنة التحكيم بنظرة خاصة بمهرجان كان السينمائى ، أن يخطف الأنظار في خطوة رسخت مكانة السينما الكولومبية الصاعدة في المشهد العالمي.
لكن ما يميز هذا العمل صوته المختلف: فيلم كبير بأسئلته،وبنصه الإبداعي وإخراجه الأصيل وأدائه التمثيلي الرائع، و مزيجه الفريد من الكوميديا والدراما، وحكاية مؤثرة وعبثية وتصويره الحساس وهو يلتقط حياة شاعر عجوز منسي ليحولها إلى تأمل في معنى الفن والخذلان والكرامة
تدور أحداث الفيلم في مدينة ميديلين الكولومبية، حيث يعيش أوسكار ريستريبو، شاعر في الخمسين من عمره، كان يوماً ما وجهاً واعداً في الساحة الأدبية، قبل أن يختفي في غبار النسيان. يعيش أوسكار مع والدته في شقة متواضعة، يتسكع بين المقاهي، ويكتب أبياتاً لا يقرأها أحد.
منذ اللقطات الأولى، يضعنا المخرج أمام مأزق البطل: رجل مثقف، هش، لا يعرف إن كان ما يزال شاعراً أم مجرد ظلّ لمجد لم يولد.
إنها قصة مألوفة عن الفنان الذي خذلته الحياة، لكنها تُروى هنا من زاوية ساخرة وواقعية تجعلها أقرب إلى تجربة إنسانية عامة، تتجاوز حدود كولومبيا إلى أي مكان في العالم حيث يعيش الحالمون على الهامش.
يبدأ التحوّل في مسار القصة حين يلتقي أوسكار بالفتاة الشابة يُرلَدي، طالبة من حيّ فقير تمتلك موهبة أدبية صادقة، لكنها تفتقر إلى الثقة والإرشاد.
يرى أوسكار في يُرلَدي صورةً من ماضيه، فيقرر أن يساعدها على صقل كتابتها، غير مدرك أن هذا اللقاء سيعيد فتح جراحه الخاصة.
العلاقة بينهما، التي تبدأ على شكل صداقة فكرية، تتحول تدريجياً إلى مساحة من التوتر والتأمل. هي تبحث عن الحلم، وهو يبحث عن معنى جديد لوجوده.
يقدم الفيلم هذه العلاقة بذكاء، بعيداً عن التلميحات الرومانسية السطحية، ليجعلها حواراً بين جيلين:
جيلٍ يائس يرى في الفن خلاصاً شخصياً، وجيلٍ جديد يرى فيه وسيلة لتغيير الواقع.
يُصنف «A Poet» ضمن خانة “التراجيديا الكوميدية”، حيث يمتزج الحزن بالضحك في مزيج دقيق.
يُقدم أوسكار شخصية عبثية، مثيرة للشفقة والابتسام في آن واحد: شاعر يصر على أنه ما يزال عظيماً، رغم أن أحداً لا يقرأه. يثور على طلابه، يتحدث إلى نفسه، ويتعامل مع الشعر كأنه عبادة قديمة نسيها الناس.
من خلال هذا التناقض، يطرح الفيلم أسئلة عميقة:
هل يحق للفنان أن يعيش في وهم مجده القديم؟
وهل الإخفاق جزء من هوية الإبداع نفسه؟
الجواب لا يأتي صريحاً، بل يُترك للمشاهد، الذي يجد نفسه بين التعاطف مع البطل والسخرية منه في الوقت نفسه.
اختار المخرج سيمون ميسا سوتو تصوير الفيلم بأسلوب بصرى يشبه القصيدة لإضفاء ملمس بصري خام وأصيل. النتيجة كانت صوراً حية تنبض بالصدق، تجمع بين خشونة الواقع وجماليات الضوء الطبيعي.
الكاميرا تتحرك ببطء، تراقب أوسكار في صمته وتردده، وكأنها تكتب قصيدة بصرية لا تُقال بالكلمات.
الإيقاع البطيء لا يهدف إلى الإطالة، بل يعكس بطء الزمن الداخلي للشاعر، ذاك الزمن الذي توقّف منذ سنوات، بينما استمر العالم في المضيّ بدونه.
أما الموسيقى، التي وضعها ماتي باي، فهي أشبه بخيوط من الضوء تمرّ بين المشاهد، تمنح الفيلم طابعاً حزيناً وشاعرياً من دون أن تفرض نفسها على الإحساس العام.
(واقعية بلا ضجيج)
أحد أبرز إنجازات الفيلم أنه يقدم واقعية هادئة، بلا صراخ ولا شعارات.
رغم أن خلفية العمل هي كولومبيا بما تحمله من توترات اقتصادية واجتماعية، فإن المخرج لا يقدم خطاباً سياسياً مباشراً، بل يترك التفاصيل اليومية لتقول كل شيء:
البيت المتداعي، المقاهي الرخيصة، نظرات الناس إلى الشاعر الذي فقد بريقه.
هكذا يتحول المكان إلى شخصية إضافية في الفيلم، تعبّر عن الفقر والخذلان والحلم المؤجل، تماماً كما يفعل أوسكار نفسه.
وفي هذا المعنى، يمكن القول إن «A Poet» فيلم عن كولومبيا بقدر ما هو عن الإنسان، عن الفجوة بين الحلم والواقع، وعن هشاشة الفن في مواجهة الحياة.
أداء تمثيلي متقن
يقدم أوبيمار ريوس أداءً لافتاً في دور "أوسكار"، يجمع بين الجدية والتهكم، بين الكبرياء والانهزام.
لا يعتمد ريوس على الانفعالات، بل على نظراته وصمته ولغته الجسدية التي تقول أكثر مما يقول الحوار.
في المقابل، تمنح ريبيكا أندريدي شخصية "يُرلدي" حضوراً صادقاً وطاقة شبابية تنعش السرد، وتشكّل توازناً مع بطء الشخصية الرئيسية.
الكيمياء بين الممثلين تُكسب الفيلم دفئاً إنسانياً يجعله أكثر من مجرد سرد لفكرة، بل تجربة شعورية كاملة.
الشعر كوسيلة للنجاة
من الناحية الرمزية، لا يتحدث «A Poet» عن الشعر بوصفه فناً لغوياً فحسب، بل بوصفه فعلاً للنجاة.
ففي عالمٍ تسوده المادّية والنسيان، يصبح الشعر محاولة يائسة لاستعادة المعنى.
لكن المفارقة المؤلمة أن هذا الشعر نفسه يمكن أن يتحول إلى عبء على صاحبه، كما نرى مع أوسكار، الذي يعجز عن التخلّي عن ماضيه، فيبقى أسيراً لكلماته القديمة.
في النهاية، لا نجد بطلاً منتصراً أو منهزماً، بل إنساناً يواجه هشاشته بشجاعة، وهذا ما يجعل الفيلم مؤثراً بعمقه وصدقه.
(بين المحلية والعالمية)
يُحسب للفيلم أنه استطاع أن يكون محلياً في التفاصيل، وعالمياً في الفكرة.
البيئة الكولومبية واضحة الملامح، لكنها لا تحجب المعاني الإنسانية الكبرى: الشيخوخة، الإبداع، الغرور، الحاجة إلى الاعتراف.
لذلك كان فوز «A Poet» في نظرة ما استحقاقاً منطقياً، إذ نجح في تقديم لغة سينمائية جديدة لا تنتمي إلى السينما التجارية ولا إلى التجريب المتكلف، بل إلى المساحة التي يلتقي فيها الفن بالحياة.
في زمنٍ يزداد فيه الضجيج وتغيب فيه المعاني، يأتي فيلم «A Poet» ليذكرنا بأن الصمت يمكن أن يكون أبلغ من الكلام، وأن الفشل ليس نهاية الطريق، بل مادة أولى لصناعة الجمال.
من خلال شاعر عجوز فقد كل شيء إلا كرامته، ومن خلال شابة تبحث عن بداية، يصنع المخرج سيمون ميسا سوتو فيلماً عن الإصرار على الإبداع مهما كان الثمن.
إنه عمل عن الحلم الإنساني في أن يترك المرء أثراً، حتى لو كان هذا الأثر بيت شعر لا يسمعه أحد.