ما الذي يحدث حين يغيب الوريث الشرعي؟ وكيف تُوزّع التركة إذا تُوفي أحد الوالدين قبل الأجداد؟ هل تظل العلاقات غير الموثقة خارج حسابات القانون؟ وهل تبقى القواعد الفقهية قادرة على مواكبة تعقيدات العصر؟
أسئلة تجدّد حضورها مؤخرًا في النقاشات العامة، إثر واقعتين أثارتا اهتمام الرأي العام، إحداهما ترتبط بإثبات صفة زوجة في ظل غياب التوثيق القانوني، والثانية تدور حول نزاع محتدم على تركة ضخمة بعد رحيل الأبناء، لتُعيد الحالتان معًا تسليط الضوء على قضايا الميراث في مصر، وما تحمله من إشكاليات تتصل بالتوثيق، والورثة، والعدالة في توزيع الثروة داخل العائلة.
وقائع مشابهة شهدتها الساحة المصرية في السنوات الأخيرة، تكشف عن صعوبات متكررة في إثبات صفة الوريث أو تحديد أحقية الأحفاد، ما دفع البعض إلى اللجوء إلى تفسيرات شرعية خاصة واجتهادات قانونية لسدّ الفراغ الذي قد تتركه النصوص الحالية.
ومع توالي هذه القضايا، تتجدد التساؤلات حول مدى ملاءمة التشريعات الحالية، وإلى أي مدى تحتاج قوانين الأحوال الشخصية إلى تطوير يتناسب مع الواقع المجتمعي وتعقيدات العلاقات الأسرية. وفي هذا التحقيق، ترصد "الشروق" أبرز الوقائع الأخيرة، وتعرض خلفياتها، وتطرح تحليلًا فقهيًا وقانونيًا لمضامينها.
عائلة الدجوي.. نزاع عائلي يتخذ أبعادًا قانونية
شهدت عائلة الدكتورة نوال الدجوي، سيدة الأعمال المعروفة ومؤسسة عدد من المدارس والجامعات الخاصة، تطورات درامية في نزاع عائلي تصاعد بشكل لافت، خاصة بعد وفاة حفيدها أحمد الدجوي، الذي عُثر عليه متوفًى في مسكنه بمدينة 6 أكتوبر، حيث رجحت التحريات الأمنية انتحاره باستخدام سلاحه المرخّص.
ووفق المعلومات الصادرة عن الجهات الأمنية، فإن أحمد كان يعاني من اضطرابات نفسية وعاد مؤخرًا من رحلة علاج بالخارج. لكن محامي العائلة أنكر تلك الرواية، مشيرًا إلى أن الشاب كان بصدد المصالحة مع جدته وبنات عمته، ما يجعل فرضية الانتحار موضع شك. كما أثار شقيقه عمرو الدجوي علامات استفهام إضافية بإعلانه عدم تلقي العزاء، في إشارة ضمنية إلى شبهة جنائية محتملة، وفق الأعراف المجتمعية.
صراع على الميراث بعد وفاة الأبناء
ترجع جذور الخلاف إلى أعوام مضت، وتحديدًا بعد وفاة نجل الدكتورة نوال، شريف الدجوي، عام 2015، ثم لحقت به شقيقته منى الدجوي في عام 2025. ومنذ ذلك الحين، اندلع خلاف بين ولدي شريف (أحمد وعمرو) وبين ابنتي منى (إنجي وماهيتاب)، بسبب ما اعتبره الشقيقان محاولة لحرمانهما من الميراث المنتظر.
وقد تقدم الأخوان بشكوى رسمية إلى النيابة العامة، اتهما فيها بنات عمتهما بالاستيلاء على ممتلكات الجدة، والتي تُقدّر بأكثر من ملياري جنيه، مستغلّين حالتها الصحية لتوقيعها على شيكات وتحويلات ملكية.
ويرى البعض أن هذا النزاع مرتبط بمحاولة العمة وابنتيها قطع الطريق على "الوصية الواجبة"، التي تمنح الأحفاد من الابن المتوفى نصيبًا من تركة الجد أو الجدة، حتى وإن لم يوصِ المورث بذلك.
الوصية الواجبة.. قانون ملزم يعالج غياب الوالد
يشرح المحامي والباحث القانوني عبدالرازق مصطفى أن الوصية الواجبة هي التزام قانوني يُقرّه القانون المصري، يخصّص جزءًا من تركة الجد أو الجدة لصالح أحفاد الابن أو الابنة المتوفين، بشرط ألا يتجاوز هذا الجزء ثلث التركة.
ويضيف أن هذه الوصية تُطبّق حتى إن لم يُوصِ بها المورّث، وتُوزع وفق قواعد الميراث الشرعي، بحيث يحصل الذكر على ضعف نصيب الأنثى. ويهدف التشريع إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتعويض الأحفاد الذين فقدوا آباءهم أو أمهاتهم قبل الجد أو الجدة.
رؤية فقهية.. اجتهاد يراعي المقاصد
يؤكد الدكتور عبدالرحمن فايد، أستاذ الشريعة بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، أن الوصية الواجبة هي اجتهاد معاصر ينسجم مع مقاصد الشريعة في تحقيق العدالة وحماية حقوق الأحفاد. ويشير إلى أن هذه الرؤية لا تتعارض مع أصول الفقه، إذ نصّت بعض اجتهادات التابعين على وجوب الوصية لغير الوارثين من الأقارب، استنادًا إلى آية الوصية في سورة البقرة.
ويتابع أن هذا الاجتهاد يراعي تغير الظروف، ويعطي ولي الأمر سلطة تنظيم التصرفات المالية بما يحقق المصلحة العامة، معتبرًا أن الوصية الواجبة تُمثّل استدعاءً حيًا للفقه المقاصدي الذي يوازن بين النص والواقع.
زواج غير موثّق.. نزاع أسرة محمود عبد العزيز
أعادت قضية الإعلامية بوسي شلبي، زوجة الفنان الراحل محمود عبدالعزيز، الجدل حول أهمية التوثيق في إثبات العلاقة الزوجية. فقد أعلن أبناء محمود أن العلاقة بين والدهم وبوسي شلبي انتهت بالطلاق منذ عام 1998، بينما قدّمت الأخيرة وثائق تؤكد استمرار زواجهما حتى وفاته.
ويحذّر المحامي أيمن محفوظ من خطورة الاعتماد على الشهادات الشفوية في قضايا الزواج والميراث، مشددًا على أن التوثيق الرسمي هو المرجع الوحيد المعتمد قانونيًا، وهو ما يتوافق مع روح الشريعة التي أمرت بكتابة الحقوق لحمايتها.
الوريث المجهول.. قضية سمير صبري تفتح باب "ميراث الظل"
في حالة أخرى، أثار إعلان عدم وجود وريث للفنان الراحل سمير صبري دهشة الكثيرين، خاصة وأنه كان يصرّح في لقاءاته بوجود ابن له يقيم في لندن. لكن إعلام الوراثة خلى من أي ذكر لزوجة أو ابن، ما أدى إلى انتقال الميراث إلى أبناء عمه باعتبارهم العصبة الأقرب شرعًا.
ويؤكد خبراء أن غياب القيد العائلي وعدم وجود دعوى نسب موثقة، يجعلان المحكمة تعتمد على ما هو ثابت رسميًا فقط، مما يُبرز الحاجة لتوثيق كل ما يتصل بالعلاقات الأسرية لتفادي ضياع الحقوق.
حلول بديلة.. من الهبة إلى الصناديق الائتمانية
يقترح عبدالرازق مصطفى التفكير في بدائل عملية للوصية الواجبة، مثل توزيع جزء من الثروة على الأحفاد خلال حياة المورّث، سواء عن طريق "الهبة" أو من خلال إنشاء "صندوق ائتماني" تُحدد شروطه بدقة ويُدار بمعايير واضحة، لتجنّب النزاعات التي تظهر بعد الوفاة.
كما يشير إلى خيار إنشاء "شركة عائلية" لإدارة أصول الأسرة بشكل مؤسسي، بحيث يُوزع العائد المالي على الورثة حسب نسب مُحددة سلفًا، ما يحول العلاقة من صراع على الإرث إلى شراكة في الثروة، ويُعزز من الاستقرار الأسري والاقتصادي.
بهذا، يبقى ملف الميراث في مصر مفتوحًا على جملة من التحديات، القانونية والفقهية والاجتماعية، بينما تبدو الحاجة ملحة لإعادة النظر في آليات توزيع التركة، بشكل يوازن بين أحكام الشرع ومتطلبات الواقع، ويوفر ضمانات واضحة لكل الأطراف.