آن الأوان للتوقف عند مسارات المواجهة مع العدوان الإسرائيلي منذ إعلان كيانه عام 1948 وحتى اليوم، وتقييم نتائجها وأسباب القصور والتردي العربي والإسلامي في الصراع معه بروية وتعقّل ووعي مسؤول. وربما سيكون ذلك ممكنًا لو جرى التوقف عن إخفاء الحقيقة عبر الإصرار في كل منازلة على رفع شعار «انتصرنا»!
وليس أشد إيلامًا ومدعاة للخيبة من معارك صدام حسين، وهو يخرج البلاد من حروبه أكثر خسارة وانكساراً!
لقد كان أمام قيادة الحزب الشيوعي العراقي في اللحظات الأولى من الحرب العراقية – الإيرانية، أن نتخذ موقفًا من الحرب وتحدد توجهاتنا في التعامل مع تطوراتها.
وصادف إعلان الحرب مع تصعيد غير مسبوق لاستبداد سلطة البعث، بعد أن استأثر الدكتاتور صدام حسين بالسلطة، كاشفاً عن وجه الجلاد؛ فاشيًا فاق بنهجه ما كان عليه هتلر وموسوليني!
وتجسد هذا التصعيد في جانب منه بوضع الحزب أمام أحد خيارين لا ثالث لهما: التصفية الجسدية للحزب ممثلاً بقيادته وكوادره وأعضائه والقوى الديمقراطية المتفاعلة معه، أو الدخول «في خيمة البعث»، أي التحول إلى لقيطٍ ملحق بالبعث والتخلي عن وجوده الفعلي سياسيًا وفكريًا وتنظيميًا، تمهيدًا إلى حله والالتحاق بالبعث، كما كان يُراد بعد سقوط سلطة البعث الأولى عام 1963، بالانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي بقيادة «حركة القوميين العرب» في إطار ما عُرف في تلك الفترة بسياسة «خط آب» اليميني التصفوي المدان.
ولم يكن أمام الحزب يومذاك إلا إدانة نظام صدام حسين، بعد أن اتضح أنه البادئ بإشعال الحرب، والدعوة إلى إيقافها والانسحاب من الأراضي التي جرى احتلالها. وفي مجرى تطور الحرب، واتخاذها طابع احتلال الاراضي من قبل الطرفين، وخصوصًا بعد معركة الفاو التي توغلت فيها إيران إلى أراضٍ عراقية، كان موقفنا إدانة التوغل في الأراضي العراقية وشجب الاحتلال من أي جانب كان، والتأكيد على الانسحاب وإيقاف الحرب والعودة إلى الحدود الدولية لكلا البلدين.
ومثل هذا الموقف من الحرب، بشجبها وإدانة المعتدي ورفض احتلال أراضي الغير، كان ولا يزال نهجًا مبدئيًا للشيوعيين يجسد هويتهم الوطنية والأممية، بصرف النظر عن طبيعة النظام القائم واستبداده.
ويتضح هذا النهج دون لبس من العدوان الإسرائيلي على الجمهورية الإسلامية، ليس فقط لكونه البادئ بالحرب، وإنما لطبيعته العنصرية التوسعية الاستيطانية، واحتلاله للأراضي الفلسطينية والعربية، واستهتاره بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والقوانين والأعراف الدولية، ورفضه الانصياع للمطالب المشروعة للشعب الفلسطيني بإقامة دولته الوطنية المستقلة.
إن مثل هذا الموقف المعبر عن النهج المبدئي للشيوعيين والوطنيين العراقيين، وفي سائر البلدان العربية وعلى الصعيد الدولي، يدل بوضوح على أن الدفاع عن سيادة الاوطان وشجب الحروب العدوانية لا يخضع حتى لمعايير طبيعة النظام المُعتدى عليه ونهجه المعادي للحريات والحقوق والقيم الوطنية والإنسانية. فقد اتخذ حزب «توده» الإيراني ذات مواقف الشيوعيين، متجاوزًا جروحه ومعاناته من النظام القائم في إيران. بل كان هذا هو موقف الأوساط الواسعة من قوى وشخصيات المعارضة الإيرانية في الداخل والشتات!
وأصوات هذه القوى التي تناوئ النظام، هي أكثر فاعلية ومسؤولية وإخلاصًا من صياح ونعيق الموالين المأجورين المجردين من الهوية الوطنية العراقية. فالمعارضة إذ تعلن الولاء لوطنها والدفاع عن سيادته واستقلاله، فأنها تتعالى على جراحاتها وضيمها وما تتعرض له من كبت وحرمان وعسف وإقصاء.
والعراقيون الوطنيون الذين شجبوا العدوان الإسرائيلي وانحازوا للوقوف إلى جانب إيران المعتدى عليها، لم يُخضعوا موقفهم لما يعايشونه من تدخل سافر في شؤون بلدهم منذ إسقاط الدكتاتورية الصدامية، والتحكم والهيمنة على مقدرات البلاد من خلال زمرة معزولة مدججة بسلاح منفلت خارج الدولة، وميليشيات مكرسة لمواجهة أي تحرك شعبي في إطار القانون، كما كان عليه في انتفاضة تشرين، بقوة السلاح والتصفيات الجسدية، دون أن تخفي ولاءها لإرادة خارج الحدود والدفاع عن مصالح لا علاقة لها بالمصالح الوطنية العليا للعراق.
إن مواجهة النتائج الكارثية للعدوان الإسرائيلي على الجارة إيران وشعبها، لا تستقيم بالشعارات المجردة من الحقيقة، بل بالتوقف عند الحقائق والمعطيات الملموسة. ولا يعني ذلك إشاعة روح الاستسلام والهزيمة والإحباط في أوساط الشعب والقوات المسلحة، بل تبصيرها بأسباب وعوامل ما ترتب على الحرب من خسائر وضحايا ونكبات. وما يتطلبه ذلك من مواجهة النتائج السلبية عبر تعبئة القوى بتحرير إرادة الشعب، والاعتماد على قواه الوطنية الحية، والارتقاء بمستوى استعدادها لمواجهة أي تحدٍ يستهدف سيادتها واستقلالها ومصالحها العليا. وهو يستلزم أيضًا العودة إلى مسار يحترم إرادة الشعوب والبلدان الأخرى المجاورة وسواها، والتوقف عن التدخل في شؤونها تحت أية شعارات مخادعة تخفي ما يتناقض مع ادعاءاتها، وفي مقدمة ذلك الإقرار بأن الدولة المعافاة المنافية للاستبداد هي الإطار القادر على ردع أي عدوان، بل إقامة علاقاتٍ صداقة أو تحالف، وليس الاعتماد على شراذم ميليشياوية مأجورة خارج سلطة الدولة وسيطرتها.
وللأسف، فإن الحركات الكبرى في البلدان العربية، وفي مقدمتها الأحزاب الشيوعية، ظلت على الدوام تختم بياناتها بالعبارة الشهيرة: «ورغم الخسائر والانتكاسات، فإن الإمبريالية والرجعية وعملاءهما لم يستطيعوا تحقيق كامل أهدافهم»! من دون أن نسأل: هل كنا نحن أيضاً عاجزين عن تحقيق أي من أهدافنا؟
وليس عبثًا أن شعار «انتصرنا» بعد كل هزيمة وانكسار، كان يمهّد لهزيمة وانكسار جديد!
لأن مثل هذا الشعار ينطوي على شعور بالرضا الخادع، ويغري بالاكتفاء، ويدفع إلى المزيد من الانحدار.