- من المسئول عن تحويل (الطبيعة) إلى (بعبع) امتحانات الثانوية العامة؟
- لماذا لا تستعين وزارة التعليم بـ(الغندور) و(عنان) لتدريسها؟
- هل ساعد دعم الدولة لوزراء التعليم في إفساد منظومةالتعليم؟ ولماذا لا تستمر (رؤية) بعد رحيل وزيرها؟
- متى يتدخل الأعلى للإعلام لوقف فوضى (الترافيكالحرام) على حساب التعليم
- كيف تطور وزارة التعليم أدواتها ومتى يعود الطلاب لحب المادة مرة أخرى؟
وكأنه مشهد مكرر كنا جزءًا منه بكل الصور، خرجت الفيديوهات المعتادة لانهيار طلاب وطالبات الثانوية العامة بعد امتحان الفيزياء.
حاول البعض تجميل الأمور مؤكدًا أن الامتحان يحتاج إلى "طالب مذاكر"، ومارس آخرون هوايتهم في تهويل الأمور، أو تهوينها، وكالمعتاد، نعلم جيدًا أن العينة العشوائية التي ستعلن نتيجة تصحيحها خلال أيام ستكون مطمئنة، وستمر الفيزياء، كما ستمر غيرها من المواد، لكن سيبقى في الوعي الجمعي للمصريين انطباع أن الثانوية العامة كابوس حقيقي، وأن (الفيزياء) مادة صعبة ومستحيلة، ولن يتحرك أحد – للأسف – لإيجاد حل حقيقي لهذه "الديجافو" التي نشعر بها كل عام بعد نفس الامتحان، لدرجة تستدعي التفكير في:
- من له مصلحة في بقاء الوضع على ما هو عليه؟
- وهل يكره المصريون الفيزياء؟ أم أن الصورة تفتقد كالعادة لمن يوضحها، ويزيل الغشاوة عن أعين الجميع.
أهلًا بكم في حلقة جديدة من مسلسل رعب اسمه امتحان الفيزياء في الثانوية العامة
(1)
في العام الماضي خرج الدكتور رضا حجازي وزير التربية والتعليم والتعليم الفني السابق، بتصريح مهم ولافت، مؤكدًا بالنص أن "تدريس الفيزياء في مصر بعافية. ليه؟ قلبناها رياضة! حسابات ومسائل! يا جماعة الفيزياء ظواهر. يجب أن نكون ملمين بالظاهرة".
كان التصريح جريئًا وشجاعًا وصادر عن (مدرس كيمياء) ترقى حتى أصبح وزيرًا.
تصريح وضع يده على بداية الطريق الحقيقي، وهو أسلوب التدريس، بل ويمكن أن نمد الخيط على استقامته ونأتي بأصل الأشياء: المقرر.
- هل مقرر الفيزياء في مصر هو المقرر الأنسب؟
ولا نتحدث عن هذا العام فقط، وإنما نتحدث عن أعوام سابقة.
- وهل (مدرس المدرسة) مؤهل لشرحه؟
- ثم سامحني حين أسألك: ما الذي يريد (الممتحن) أن يختبره لدى طالب (علمي علوم) أو (علمي رياضة) الذي يدرس الفيزياء؟
- وهل يجب أن يكون الامتحان في مستوى الطالب الـ(آينشتين)؟
هيا نكون بنفس درجة الشجاعة التي تجعلنا نتذكر أن اسم (الفيزياء) لم يكن كذلك، وإنما كانت تلك المادة تسمى (الطبيعة)، وهذا هو أصل الأمور، فالفيزياء هو العلم الذي يفسر كيف تعمل الطبيعة من خلال الظواهر المختلفة التي تفسرها سواء بقوانين أو بشرح علمي يجعلنا ندرك كيفية طبيعة عمل الكون والأشياء من حولنا، فهل هذا ما يحدث داخل الفصول؟ ومن الذي حول الفيزياء إلى مسائل؟ مؤلف المقرر أم أستاذ المادة أم واضع الامتحان؟!!
الغريب أن العام نفسه الذي صرح فيه الوزير برأيه في الفيزياء، جاء امتحان المادة مشتملًا على أخطاء فادحة، وتم التحقيق مع أحد واضعي الامتحان لإعطائه دروس خصوصية، وزادت الهوة مهما حاولت الوزارة إصلاحها حين أعطت الطلاب الدرجة كاملة في الأسئلة التي صيغت بشكل خاطئ رغم التأكيد الدائم على مراجعة هذه الامتحانات، لتذهب الاتهامات صوب منظومة وضع الامتحانات في الأساس، وهو ما يجعلنا نرجع قليلًا للوراء لنعرف كيف بدأ تدريس (الفيزياء) في مصر؟
(2)
وضعت البذرة الأولى لنظام التعليم المصري حين أراد محمد علي باشا بناء (دولة)، فأرسل عدة بعثات إلى أوربا، عاد منها الطلاب بخبرة تسمح لهم بالبدء في مشروعات جديدة تعيد هيكلة وبناء الدولة المصرية، وكان التعليم على رأس اهتمامات محمد علي.
صحيح أنه في البداية كان موجهًا لخدمة الجيش، حتى في مدرستي الطب والهندسة اللذين أنشأهما في العام 1827، لكنهما كانا البداية لتعليم يشبه التعليم الأوروبي كما أراد، وهكذا استعان بالأجانب لتعليم المصريين، ولتأهيل المعلمين، وكان ضمن ما يتم تدريسه أساسيات في علم الطبيعة، وكل ذلك بدون مدارس حقيقية كما نعرفها في يومنا هذا في مصر، لكن بحضور قوي لفروع (الطبيعة) التي سبقت حتى وجود (المجلس الأعلى للمعارف)، والذي تأسس في العام 1836 بأمر من محمد علي باشا، ليصبح مصطفى بك مختار أول (ناظر) للمعارف العمومية، وتكون مهمته الأساسية: "تنظيم قواعد التعليم، والإشراف على إنشاء المدارس الحديثة في مصر".
وتمر السنوات ويكون التعليم المصري مستندًا في الأساس على المقررات التي ينقلها ويمصّرها المصريون الذين سافروا من قبل للبعثات التعليمية، وتظل (الطبيعة) حاضرة، بل إن تاريخ الطبيعة(والذي شمل موضوعات من الأحياء كما ستعرف فيما بعد)، كان ضمن المواد المقررة على المرحلة الابتدائية في نهايات القرن التاسع عشر.
أكرر. كان تاريخ الطبيعة مقررًا على المرحلة الابتدائية آنذاك، بعد إصلاحات جذرية عظيمة قام بها علي باشا مبارك، ومقررات جديدة تتناسب مع "دار المدارس" التي أنشأها لـ"تدريب المعلمين"، وتطويره لـ"شبكة" للمدارس الابتدائية؛ ليمهد هذا الرجل العظيم لقيام وزارة متخصصة هي وزارة المعارف، والتي أعلن عن إنشائها بمرسوم في أغسطس 1878؛ لتتولى إدارة شئون التعليم بكل مراحله، وتصدر أول مجلة متخصصة بالقضايا التربوية والتعليمية هي مجلة روضة المدارس لرئيس تحريرها رفاعة رافع الطهطاوي، وتستمر الترجمات ومحاولات التمصير، وتدرس المرحلة الابتدائية كتاب (حياة النبات) لعثمان بك غالب، ويزدهر التعليم في عهد الخديوي إسماعيل الذي يضاعف من إنفاقه عليه أكثر من عشرة أضعاف، لتعرف مصر المدارس الفنية والمهنية، لكن الاحتلال البريطاني بعد 1882 يضغط لتخفيض النفقات، وإغلاق بعض المعاهد المتخصصة، ورغم كل ذلك كانت (الطبيعة) صامدة، إلا أن التركيبة الاجتماعية للشعب المصري جعلته أكثر ميلًا للغة العربية وعلومها، وللدراسة الأزهرية السابقة للتربية والتعليم، كما أن المواد الأدبية كانت الأكثر رواجًا في زمن ازدهرت فيه الثقافة، وتقلصت فيه عاماً بعد عام فرص السفر إلى بعثات تعليمية، ثم مع حركة الترجمة المتعاقبة، وبعد ثورة يوليو 1952، تحولت مادة (الطبيعة) إلى (الفيزياء) ذات الأصل اللاتيني في اسمها، وذات المعنى المتعارف عليه، إلا أن الأمر بدأ يبحث أكثر في (القوانين)، و(المسائل) حتى وصلنا مع مرور السنوات إلى ما نحن عليه الآن.
(3)
إذا كانت (الفيزياء) كمقرر هي البداية، فالصورة الذهنية للعلوم نفسها كانت تستدعي انتباهًا حقيقيًا من كل وزراء التربية والتعليم السابقين، ونظام التعليم الذي يختصر المسار العلمي في كلية الطب وكل ما له علاقة بها، والمسار الرياضي لكلية الهندسة وبعض الكليات الأخرى، هو في ذاته قائم على (مجموع) و (فرص) أكثر من (اهتمام) و (ميول).
وهو مسار يُجبَر الطالب عليه ولا يختاره، لأن الاختيارات نفسها محدودة، لكن هل يتم (تأسيس) الطلاب علميًا أو رياضيًا بالشكل الصحيح؟
ومتى يبدأ اللقاء الأول للطالب بالعلوم؟
واقع الأمر أن ذلك يحدث (وفق التطويرات الأخيرة التي بدأت منذ العام 2018) من الصف الرابع الابتدائي، حيث العلوم (المطورة) وفق تحديثات عملت عليها الدولة كخطة لتطوير المناهج، بحيث يتم تطوير مقررات الصف الدراسي عامًا بعام، وهكذا عرفنا من يطلق عليهم بـ(دفعة التطوير)، وواكب الأمر الاعتماد على التعليم الالكتروني من خلال تحديث البنية التكنولوجية للوزارة، وتوزيع (التابلت)، ومحاولة اعتماد نظم امتحان (الكترونية) لم يوفق القائمون عليها لأسباب لم تكشف لنا كاملة، ولم يتصف أحد بشفافية شرحها بالكامل، لكن مع الوزير التالي (د. رضا حجازي)، ثم الذي يليه (الوزير محمد عبد اللطيف)، احتضر مشروع (التابلت)قبل أن يموت تمامًا؛ لتنتهي رؤية صرفت الدولة الكثير على تطويرها، وبشّرت بها، وكانت – للأمانة – مواكبة لحركة التعليم في العالم، لكن هل كنا جاهزون لها؟ وهل آتت أُكُلها؟ وهل تم دراسة آثار إلغائها؟ وهل قدمنا بديلًا لها أو تحسينًا في (جودة) التعليم المقدم؟.
لا تظن أننا الآن نتفرع في الموضوعات لأن واقع الأمر يقول إن (العلوم) كمادة كان يمكن أن يتم تدريسها بشكل مختلفة عن طريق البنية التكنولوجية، والتي كان يجب أن يوازيها تطوير حقيقي للمعامل، ليصبح معمل العلوم في المدرسة مكانًا جاذبًا، ويتم اعتماد نظريات التعليم الترفيهي في العلوم Edutainment، وكذلك تأهيل المدرسين للمقررات الجديدة التي تم طرحها بالتعاون مع دور نشر عالمية معتبرة تعاقدت معها الدولة المصرية ممثلة في وزارة التعليم،مثل (Discovery) بكل ما تمثله من ثِقَل حقيقي وخبرة كبيرة.
والقارئ الجيد المطّلع، بل والباحث الذي يُفترض أن تعتمد الوزارة عليه في أبحاث تخدم عملية تطويرها، ومركز البحوث التربويةالمنوط به ذلك كان لزامًا عليهم جميعًا أن يبحثوا في الطرق "الممتعة" لتدريس مواد العلوم، فإذا كانت مصر بدأت تدريس الفيزياء في المرحلة الابتدائية قبل أكثر من مائة عام، فإن بداية الطريق واضحة وسهلة لو وجدت الرؤية الحقيقية، وينبغي – كما في العالم أجمع – أن تبدأ من الصغر، وأن يتم تربية وتعليم أبنائنا (كيف يفكرون علميًا) بطرح الأسئلة الحقيقية والإجابة عليها ودعم خيالهم، والأهم، استخدام استراتيجيات التلعيب في تعليم مادة الفيزياء ومواد العلوم بشكل عام، فيما يعرف بالـ gamification، لنصبح أمام مادة مليئة بالألعاب التعليمية وليس بطرق الحفظ التقليدية، والتلقين الذي لا يفيد، وحفظ المفاهيم دون إدراكها، و(صم) القوانين دون معرفة كيفية تطبيقها، وهو – للأسف - ما لم يحدث، بل إن (الأنشطة) المصاحبة لبعض المواد في المرحلة الابتدائية المطورة في فترة طارق شوقي، واجهت مقاومة من المدرسين أنفسهم حتى تم الاستغناء عنها تمامًا فغابت وغُيِّبت.
والأمر ليس فيه اتهامًا للمدرسين بالمناسبة، وأغلبهم ضحايا حقيقيين، حيث لم يتم تأهيلهم للقيام بهذه الأنشطة من الأساس، ولم يتم التدرج في إحداث هذا تطوير المقررات وتدريبهم عليهابطريقة مبكرة، ويستوي في ذلك جميع وزراء التعليم، فهم يوفرون فترة تدريب للمعلمين هي الأقل كمًا وكيفًا، كما أنها تتقلص كل عام، ويكاد يكرهها المدرس الذي لا يستفيد منها (ماديًا) في ظل احتياجات الحياة الصعبة، ويكره بسببها طول مدة العام الدراسي الكابس على أنفاسه هو الآخر.
وفي نفس الوقت وقع أثر كل هذا التقصير في "التخطيط الواقعي" لو جاز وصفه، كألف صاعقة على رأس الأسرة المصرية، التي خافت بدلًا من أن تتفاءل، وابتعدت عن المدرسة بدلًا من أن تقترب منها وتحبب أبنائها في الذهاب إليها، بل وصار النقد علنيًا أمام الأبناء بمنتهى الأريحية، وصرنا نسمع كلمة "هي رابعة ابتدائي والا دكتوراة"!!، ونقرأ تعليقات "الحسبنة" على الوزير والوزارة والبلد بأكملها، وانتشر (ري أكت) ال (هاهاها) و (أغضبني) على بيانات الوزارة المختلفة حول التطوير، لتخسر الوزارة فرصة جديدة في إحداث تغيير حقيقي مطلوب ومنشود ولا يجوز الاستغناء عنه أو تأجيله.
(4)
ثم إن وزارات التعليم المتعاقبة في مصر، مثلها مثل أغلب الوزارات، تفتقد لصانع الألعاب الحقيقي، أو، صانع السياسات الذي يفكر (خارج الصندوق)، ليقوم بعملية تسويق سياسي للتطوير، وتنفيذ حقيقي له على أرض الواقع، وحتى مدرس الكيمياء السابق الذي صار وزيرًا سابقًا للتعليم، وعلى الرغم من جهوده التي أعرفها جيدًا، لم يطور شيئًا في الأمر، لتصبح مادة (العلوم) من المواد (المغضوب عليها) في المقررات، ولدى الأسرة، وعند المدرسين الذين لم يتم تأهيلهم ولا تزويدهم بأدوات ممتعة، وعند الطالب الذي صار لا يفهم: ماذا تريدون منه؟ وأي شيء يذاكره؟ وكيف ستختبرونه؟ وهل تريدون فعلًا فهمه (كما تقولون ولا تفعلون) أم حفظه (كما يكتشف دائمًا).
وهنا استغل تجار السناتر المساحة، والذين ليس شرطًا أن يكونوا مدرسين متخصصين بالمناسبة، فكثير منهم أطباء أو صيادلة تركوا مهنتهم وتفرغوا للتدريس الأكثر ربحًا، لكنهم قراء جيدون أذكياء للمشهد، ويستخدمون تسويقًا حقيقيًا، ويبنون علامتهم التجارية بمهارة. لنراهم يسابقوا فيسبقوا، مستغلين استراتيجيات التخويف من (صعوبة) المادة والتي تبدأ في البيوت وتستمر في المدرسة ويرسخون هم منها، وساندهم واضع امتحان تفنن في التنقيب عن أفكار أسئلة ومسائل فيزيائية لم يتدرب عليها الطالب، والذي بدوره، ومهما حلف أي وزير على الماء ليجمد (فيزياء بالمناسبة)، لا يذهب أصلًا للمدرسة في الثانوية العامة – ومؤخرًا الإعدادية ولتسألوا الأوائل أنفسهم - ولا يتم رفده لإعادة قيده، ولا يتم جذبه للذهاب لها، ولا يتم حل هذا الأمر، لتصبح (السناتر) هي البديل للوزارة، والحلقة الوسطى بينها وبين من لا يستطيع تحمل التكلفة الاقتصادية للدروس الخصوصية، وكانت السناتر أذكى في أساليبها الترويجية، وصناعة (المدرس النجم)، بل وفي عمل (سيستم) يُمكّنها من بيع أكواد، وعمل منصات غير مراقبة أو مقننة، مع الترويج لحصص قد تصل كل حصة فيها لثمان ساعات كاملة، وعوّضت السناتر نقص الوزارة – 12 امتحان استرشادي يا مؤمن فقط لا غير - فقدمت امتحانات واختبارات دورية، وقامت بما تقتضيه علوم الإدارة من رقابة ومتابعة، فأصبح اجتياز هذه الاختبارات – بدون غش - شرطًا لمشاهدة الحصة التالية أصلًا، مع توفير (خدمة عملاء) من الـ assistants لمتابعة الطلاب وإرشادهم الأكاديمي أحيانًا، بل وشرح كل الأفكار مهما بدت صعبة أو مستحيلة، لأنها بالتأكيد إذا اتسمت بهاتين الصفتين – الصعوبة والاستحالة - فستناسب حتمًا عقلية واضح أسئلة الامتحان!!
وهكذا خسرت وزارة التعليم هذه القضية بنجاح ساحق، وظلت الفيزياء (كابوس) طالب الثانوية العامة الذي وقع بين مطرقة تاجر أزمات ذكي في السنتر، وسندان واضع امتحانات لا يدرك أصلًا ماذا يريد أن يختبر في طالب سيلتحق بمسار علمي لم يعد شرطًا أن يعتمد على الفيزياء بأسلوب (الماضي) المستمر!!
هل في الأمر استحالة على الوزارة لعلاجه؟ بنفس النهج وطريقة التفكير المتبعة منذ سنوات: نعم، الأمر صعب لدرجة الاستحالة، لكن بالبحث عن "صانع ألعاب مبدع"، قد نبدأ الطريق، ودعني أفاجئك حين أخبرك أن أدوات أخرى يمكن أن تستخدم قد تحقق نجاحًا ساحقًا لو قررت الوزارة تغيير خطة اللعب التي خسرت بسببها دائمًا، ولازالت تتبعها، ولو أنك لم تمل من القراءة حتى الآن دعني أقدم لك الدليل.
(5)
في العشرين من يوليو عام 2021 قدم صانع المحتوى المعروف (أحمد الغندور)، والذي اشتهر بلقب "الدحيح"، وحققت فيديوهاته ملايين المشاهدات، وصار واحدًا ممن يحب أبنائنا مشاهدتهم ومتابعتهم، قدم "الدحيح" حلقة عن (الترانزيستور)، بدأها باسكتش كوميدي لمدرس في أحد السناتر، اقتبس مصلحاته و (إفيهاته) من بعض مدرسي السناتر المعروفين بالفعل، ثم قدم حلقة كاملة شرح فيها أحد دروس الفيزياء للثانوية العامة. وكالمعتاد حصدت الحلقة مليون مشاهدة في يومها الأول، ثم تحولت إلى (تريند) تداوله طلاب الثانوية العامة الذين كانوا يواصلون امتحاناتهم في هذا الوقت، وتميزت هذه الحلقة بخفة ظل شديدة، والأهم، بطريقة شرح مميزة، شملت - إلى جانب المقرر - معلومات إثرائية لطالما بُحَّ صوت الوزارة والمدرسين في نصح الطلاب بها من أجل حياتهم وليس من أجل الامتحان.
كان "الدحيح"، ولا يزال، مميزًا للغاية، وقد عوّد متابعيه على ذكر مصادر معلوماته المعتبرة، ولديه فريق رائع من الكتاب والباحثين والمدققين وال fact checkers أو مدققي الحقائق الرائعين، حتى في الصور المصاحبة للحلقات، لكن في الغالب لا يعرف وزير التعليم شيئًا عن (الدحيح) ولا عن هذه الحلقة، ولا يوجد لديه من ينصحه بالاستعانة به مثلًا، ليس لمجرد تقديم الفيزياء بطريقة ممتعة، بل لتدريب المدرسين في الأساس على كيفية تقديم هذه المادة.
ولا يسير الدحيح وحيدًا في هذا الطريق، بل يوجدـ(عبد الله عنان)، وهو صانع محتوى آخر رائع أسس مشروعًا مهمًا أتابعه منذ بدايته تحت اسم (شارع العلوم)، ويقوم من خلاله بتقديم العلوم، والتجارب العلمية بطريقة مسلية في (عروض) تشبه عروض الاستاند اب كوميدي أو الراب، لكنها عروض للعلوم أو science show بالصورة المتعارف عليها في العالم، وهي طريقة التي يحتاجها أبناء هذا الجيل المختلف، و معادلة فهمها وتعلم منها وأدركها مدرسي السناتر، فأصبحوا يقدموا المادة العلمية في شكل "ميمز" ساخرة،وأحيانًا أغنيات، ويقومون بتصوير محاضراتهم على طريقة صناع المحتوى، بل إنهم في بعض الأوقات يستضيفوا ضيوف شرف في حصص مراجعاتهم من المطربين والدعاة و الرابرز وفناني المهرجانات.
تذكر قبل أن تكمل أننا لا نناقش الآن صحة أو خطأ ما يفعله مدرسي السناتر، لكننا نشير بوضوح إلى (فهم) طبيعة المرحلة العمرية والنفسية التي يمر بها طالب الثانوية العامة في هذا الجيل. ماذا يشاهد؟ وبمن يهتم؟ ولمن يسمع؟ وهي أشياء تبدو في غاية البعد عن تفكير وزارة التعليم ومراكزها البحثية، لم لا وهي بعيدة عن تفكير الدولة نفسها، والحكومة بكل مؤسساتها.
كان في الأمر بارقة أمل حين قادت د. ميرفت الديب أستاذ المناهج وطرق التدريس بجامعة بنها مجموعة علمية لوضع الإطار العام لتطوير منهج ومقررات المرحلة الإعدادية، فبدأت الأمر بالاستعانة بأحد أساتذة علم نفس الطفولة والمراهقين لفهم هذه المرحلة العمرية، ثم حفزت اللجنة للخروج خارج الصندوق المعتاد، لكن النتيجة النهائية رغم كل الجهود، لم تكن وفق (خيال) و (أمنيات) اللجنة، بقدر ما كانت وفق (مقاومة) الأستاذ عقدة كما أسميه، وهو الموظف أو المستشار الأقوى دائمًا من الوزير نفسه، ومن رؤسائه، والذي يحكم في الخفاء، وتسير كلمته على الجميع بقدرته المدهشة على"وقف المراكب السائرة"، وهي أيضًا منظومة تحتاج إلى مراجعة، لكنها بعيدة – حتى الآن - عن اهتمامات كل وزراء التعليم!!
إذن. المصريون لا يكرهون الفيزياء، لكنها بوضعها الحالي لا يستطيعون حبها، وسيبدأ التطوير وينتهي البكاء تمامًا في الفيزياء والعلوم وأي مادة، حين يتم تغيير الطريقة. حين نفهم طبيعة (الجمهور المستهدف)، وهم هنا ليس الطلاب فقط، وإنما أسرهم، لأن على صانع القرار أن يدرك أنه في التربية والتعليم يخاطب ثلثي الشعب المصري على أقل تقدير.
ولو سأل أحدهم أي من أدوات الذكاء الاصطناعي ماذا نفعل، سيجيبه إجابات الخبراء الحقيقيين، بالمنطق وليس بـ "الفهلوة"، وهو ما يتطلب عمل على أرض الواقع لتطوير الأمر وليس لأخذ لقطة.
(6)
يقولون إنك إذا أشرت بأحد أصابعك متهمًا أحدهم، فإن باقي الأصابع ستشير إليك متهمة إياك، وبكل صراحة ووضوح، يلعب الإعلام دورًا سلبيًا في تعميق (هوة) كراهية الناس للتعليم، وللعلوم بصفة خاصة، وللفيزياء بشكل أكثر تخصيصًا.
كان الأمر يبدأ برصد الانتهاكات في الامتحانات، ورأي الطلبة والطالبات، والآن صار الأمر حين حكمه الترافيك، أسيرًا لمن يصنع التريندات، وهكذا تصبح (شاهد قبل الحذف) و (انهيار طالبة بعد امتحان الفيزياء) وغيرها من العناوين التي تمثل وصفًا فرديًا، وليس بحثًا علميًا، وفي زمن (الخوارزميات) الذي نحياه، يصبح الأمر صناعة متكاملة للزيف والكذب، لا في تصوير الواقعة الحقيقية، ولكن بإعطاء انطباع أن هذا هو الأمر على إطلاقه، فتتحول (الواقعة) إلى (شكاوى)، والحزن الذي يخيم على إحدى الطالبات، إلى (انهيارات)، بل إن بعض صفحات التريندات – وما أكثرها حين ترتبط بالتعليم – نشرت خبرًا عن وفاة 6 طلاب بعد امتحان اللغة الأجنبية الثانية (وهي مادة خارج المجموع)، وتداول الخبر فئات واسعة على السوشيال ميديا، ولم تقم وزارة التربية والتعليم بما يجب عليها القيام به وسط هذه الفبركات بتقديم بلاغ قوي، وصارم، وحاسم، إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، للتحقيق مع مروجي هذه الشائعات. صحيح أن هناك جهدا حقيقيا في الرد على الشائعات، وكتابة بيانات واضحة، لكن لنتذكر أن طلاب الثانوية العامة تخدوا ال 700 ألف طالب وطالبة، وبالتالي الأمر أكبر من قدرات الوزارة وإعلامها، ويجب أن تدخل المسئول الأول عن تنظيم الإعلام للقيام بدوره إزاء هذه المواقع، ووضع ميثاق شرف يؤكد على أخلاقيات وسائل الإعلام في تناول امتحانات الثانوية العامة، لأن ما يحدث من انتهاكات إعالمية، لا يحدث في أي (ثانوية عامة) في العالم أجمع.
(7)
مررت بامتحانات الثانوية العامة طالبًا، وصحفيًا، وأبًا عانى من كل هذه المعضلات والمشكلات والدموع والشد العصبي والأكواد والملازم والمدرسة والسناتر والنماذج الاسترشادية والفيزياء ذات الحصص التي تمتد ليوم كامل، مررت بكل هذا قبل عامين، وأستعد من الآن لتجربتين قادمتين لابنتي وابني الأصغر سأقبل عليهما خلال سنوات قليلة بإذن الله، لتكون " التالتة تابتة" وأتخلص من هذا الكابوس الحقيقي في البيوت المصرية.
وأستطيع أن أقول بمنتهى راحة الضمير، أن الثانوية العامة في مصر أكبر من إمكانات وقدرات ورؤى وزير التربية والتعليم أيًا كان اسمه، وأكبر من محاولاته لإصلاحها مهما كانت نيته صادقة، ومهما توهم البعض من قوة أدواته التي لا يريد أن يعترف أنها دومًا ناقصة، وأكبر من فهمه أحيانًا لطبيعة الشعب المصري وعلاقته المركبة بالتعليم، ولإدراكه لحقيقة جودة ما تقدمه وزارته من خدمة تعليمية لأبناء هذا الوطن.
والواقع أن وزير التعليم منذ سنوات بعيدة يريد دائمًا أن يكون (مطلق اليد)، ومطبقًا لـ (رؤية) يتبناها ويقدمها للدولة التي تريد – بصدق - تعليمًا حقيقيًا ينقذها من العديد من الأزمات بالمناسبة، لكنها حين تدعمه وتؤيده وتسانده، لا تراجعه، ولا تحوكم قراره كما هي العادة، ولا تدري أنها تصنع منه بذلك أحيانًا وزيرًا مختالًا فخورًا بهذه الرؤية لدرجة ارتكاب أخطاء استراتيجية كفيلة بجعله العدو الأول للرأي العام والأسرة المصرية التي يدخل في صدام معها أحيانًا، ويهادنها في أحيان أخرى، أو يدعي أنها تسانده، ويأتي له سدنته ومستشاروه والمنتفعون منه بشكل أو بآخر، بدلائل وبراهين "صنعة إيديا وحياة عينيا"، لكن على طريقة "ده رأي الناس اهه"، ولربما غنوا له "الرأي الحلال اهه .. الرأي الحلال اهه"، رغم أننا نعلم جيدًا أنه لا يستند إلى بحث علمي حقيقي يأخذ برأي الناس بحق في موضوع التعليم بشكل عام، ولذلك فـ "عُمر الناس ما كانت مبسوطة"، و"الناس عُمرها ما كانت مبسوطة"، و "مبسوطة الناس عُمرها ما كانت"، أو كما قال محمد صبحي في (تخاريف)!!
أما الدولة نفسها، فهي تعرف ما تريده لكنها لا تعرف كيف تقوم به، والمدهش، المدهش حقًا، أن هناك كيانا اسمه المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمي والابتكار، لا توجد – حتى الآن - دلائل على دوره المنصوص عليه في القانون، والمركون في الواقع، ولا دليل حتى على أهميته النظرية، أو فاعليته الغائبة، أو دقة ما يؤدي ويقدم رغم وخصوصًا أنه لم يفعل شيئًا من الأساس، ويقال أن المستحيلات هي الغول والعنقاء والخل الوفي ومعرفة ماذا تريد الدولة من هذا المجلس، وهل سيكون له لزوم أم أن لشخص وشخصية وزراء التعليم رأي آخر.
والواقع أن محاولات تغيير نظام الثانوية العامة ستصطدم دائمًا وأبدًا بمكتب التنسيق، وما لم يتغير نظام القبول بالجامعات نفسه فليس هناك أمل في تطوير الثانوية العامة رغم (اجتهاد) يقدمه وزير التعليم الحالي في تقديم مشروع للبكالوريا المصرية ينبغي، مع ما فيه من مزايا، التأني في إقراره بعيدًا عن سرعة الدفع به وجعله أمرًا واقعًا.
وبالمناسبة، حاول الوزير الحالي التفكير خارج الصندوق، وحقق نجاحًا كبيرًأ في ملف القضاء على الكثافات الطلابية، وحفّز بقدر ما يستطيع مديري المديريات والإدارات والمدارس، وقام – بقدر ما أمكنه – بزيارات مفاجئة حقيقية وليست معدة سلفًا لمتابعة ما يحدث، لكن مع ذلك، تظل مشكلة الفيزياء مستمرة، والثانوية العامة هي البعبع والكابوس، وصورة التعليم بشكل عام في مأزق مهما طرأت عليه التغييرات.
والناصح الأمين لوزير التعليم سينصحه حتمًا بالتحضير لمؤتمر حقيقي للتعليم، يعد فيه فرق عمل تعتمد على (الخيال) ولا تعاني من فقره، وترصد احتياجات الواقع وفقه الأولويات في معالجتها.
ختامًا. سنطمئن إلى التعليم في بلدنا حين يحب أبنائنا الذهاب إلى المدرسة وهم سعداء، وليس لأنهم مجبرون بسبب التقييمات والاختبارات الشهرية، وسنثق في جودة الخدمة التعليمية عندما يعود المدرس مثلاً أعلى لطلابه وشباكهم على العالم الواسع وليس على كتاب المدرسة وحده، وستتغير الثانوية العامة إذا كان كل ما قبلها يؤدي إلى احترام حقيقي لعقولنا، فإذا أصلحنا ما قبلها، سيعود التعليم كله لمساره الطبيعي. كسياسة ورؤية واقعية للدولة، وليس كرؤية وزير.