يستعد المصريون وملايين المسلمين في مختلف أنحاء العالم، للاحتفال يوم الخميس المقبل بذكرى المولد النبوي الشريف، مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة قبل ما يقارب 15 قرنًا، ذلك الحدث الذي غيّر وجه التاريخ وحمل للإنسانية رسالة رحمة وهداية وسلام.
وتتجدد مع هذه المناسبة أجواء روحانية واجتماعية خاصة، إذ تشهد المساجد حلقات الذكر والإنشاد، فيما تحتفظ البيوت المصرية بعادة لا تنقطع منذ قرون، تتمثل في حلاوة المولد التي تتنوع بين الحمصية والفولية والسمسمية، وتتزين بعرائس السكر وأحصنتها التي باتت رمزًا للفرح وقطعة من ذاكرة الطفولة والتراث الشعبي.
منذ قرون ارتبطت "عروسة المولد" بالاحتفالات الشعبية بالمولد النبوي الشريف، واتخذت لنفسها مكانة راسخة في الذاكرة المصرية. وتنوعت أسماؤها قديمًا حتى بلغ بعضها 24 اسمًا، من بينها: العروسة البلدي البسيطة، وعروسة فريال التي تشير إلى مستوى ملكي، وعروسة الكوشة الخاصة بالزفاف، والوردة البيضاء المستوحاة من فيلم لمحمد عبدالوهاب، وعروسة الهلهوب المزينة بالطوق، وعروسة وداد المرتبطة بأم كلثوم في فيلمها الشهير.
ورغم هذا التنوع، لم يبقَ من تلك الأشكال سوى "العروسة البلدي" المصنوعة من الحلوى والمزينة بالورق اللميع والشرائط الملونة، وفقا لكتاب "عروسة المولد في قويسنا: دراسة في الثقافة المادية" لـ أسامة الفرماوي.
-دلالات اجتماعية ورمزية
وبحسب الكتاب، لم تكن العروسة مجرد حلوى، بل جسّدت انعكاسًا للواقع الاجتماعي. فكما يعتني أهل العروسة بالعريس الذي سيحفظ ابنتهم، مثّلت عروسة المولد رمزًا لعلاقة أسرية قائمة على الرعاية والحماية. وكان تثبيت اليد المتحركة بالعروسة أو وضع يدها الثانية على خصرها بمثابة إشارة للترحيب أو تحية رمزية من الصانع لزبائنه.
-خصوصية مصرية خالصة
يؤكد المؤرخون أن صناعة عروسة المولد تميزت بها مصر دون غيرها من بلاد المشرق أو المغرب العربي، إذ لم يرد في أي مصدر تاريخي ما يشير إلى وجود طقس مماثل في احتفالات المولد النبوي خارج مصر. ويذهب بعض الباحثين إلى أن الخلفاء الراشدين لم يحتفلوا بالمولد، وربما أرادوا بذلك مخالفة ما كان سائداً في الجاهلية، بينما استقر هذا الطقس في الوجدان الشعبي المصري كجزء أصيل من العادات المرتبطة بالمناسبة.
-إبداع شعبي مقاوم للزمن
برع الفنان الشعبي في ابتكار قوالب العرائس وتصميم أزيائها، وأبدع في زخرفتها رغم مشاق العمل أمام مواقد الحلوى. ولم يقتصر إبداعه على تكرار الأشكال التقليدية، بل استحدث ملامح مستوحاة من الواقع السياسي والاجتماعي: فالمروحة خلف رأس العروسة تُحاكي مروحة الخليفة، والكردان الأحمر البراق يرمز لزينة المرأة المصرية عند الزواج، والكحل في عينيها عادة فرعونية قديمة أحبها العرب. وحتى الحصان الذي يرافق العروسة أحيانًا جاء رمزًا للفروسية والبطولة الشعبية، كما جسدت بعض الأشكال رموزًا دينية مثل "الهدهد" الذي يُذكّر بقصة سيدنا سليمان في القرآن الكريم، والحمام كرمز للسلام، والديك كرمز المؤذن والمنادي لصلاة الفجر.
-من الفاطمي إلى الشعبي
ظل زي العروسة محتفظًا بسمات مستوحاة من العصر الفاطمي: ثوب واسع يحجب الساقين، وأكمام ضيقة عند الرسغين، إلى جانب المروحة الكبيرة. ومع مرور الوقت، تشابكت العروسة مع ملامح الزي الريفي الشعبي، حتى صارت جسرًا بين الذاكرة التاريخية والبيئة المحلية. ومع تطور الزمن أضاف الصانع الشعبي عناصر جديدة تعكس مستجدات الحياة مثل "السفينة" و"الطيارة" و"الصاروخ".
-ضمير جمعي
أصبحت عروسة المولد أكثر من مجرد قطعة حلوى، إذ ارتبطت بالضمير الجمعي للشعب المصري، بما يُعرف في علم الاجتماع بـ"التدين الشعبي"، الذي يربط بين الطقوس الدينية والممارسات الشعبية، دون أن يخرج الناس من دائرة الدين الرسمي. وهكذا ظلت عروسة المولد حاضرة، تجمع بين الحلاوة المادية والرمزية، وتؤكد أن التراث الشعبي قادر على الصمود والإبداع والتجدد عبر الأجيال.