شهداء الحقيقة.. حكايات 4 صحفيين فلسطينيين ضحوا بحياتهم لنقل معاناة غزة - بوابة الشروق
الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 1:34 ص القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

شهداء الحقيقة.. حكايات 4 صحفيين فلسطينيين ضحوا بحياتهم لنقل معاناة غزة

منار عبدالسلام
نشر في: الإثنين 1 سبتمبر 2025 - 10:13 م | آخر تحديث: الإثنين 1 سبتمبر 2025 - 10:13 م

بين ركام المنازل وأصوات القصف في غزة، لم يكن الصحفيون مجرد ناقلين للحدث، بل كانوا جزءًا من المأساة نفسها. حملوا الكاميرا والميكروفون ليكونوا عين العالم على ما يحدث، لكن كثيرًا منهم دفع حياته ثمنًا لذلك. 4 من أبرز الصحفيين الفلسطينيين -محمد الخالدي، أنس الشريف، محمد نوفل، ومحمد قريقع- رحلوا في ظروف مختلفة، لكنهم اجتمعوا في الشجاعة والإصرار على نقل الحقيقة.

خلف كل منهم قصة إنسانية مليئة بالألم، والأحلام المؤجلة، والعائلات الممزقة، لتبقى شهاداتهم حيّة رغم صمت أجسادهم.

وخلال التقرير التالي نروي شهادات وقصص إنسانية مليئة بالألم لأهالي الصحفيين الشهداء، وفقا لصحيفة الجارديان البريطانية.



-محمد الخالدي.. صحفي لم يحتمل قلبه تصوير الألم ورحل قبل عيد ميلاده

 

قال أنس الخالدي عن شقيقه محمد، الصحفي البالغ من العمر 36 عاماً، والذي استشهد قبل 4 أيام من بلوغه الـ37: "كان أخي صحفياً مميزاً جداً. أحمد الله أنه لم يترك أطفالاً وراءه، ففقدان الأب أمر شديد القسوة. لم يتزوج بسبب ظروف غزة الصعبة".

درس محمد اللغة العربية والإعلام في جامعة الأزهر، وبدأ العمل الصحفي منذ 2010. كان يعشق مهنته، لكنه رفض منذ البداية تصوير مشاهد الأشلاء أو صرخات الضحايا، قائلاً لأخيه: "قلبي لا يحتمل هذا الألم".

تميز بذكائه وصفاء قلبه، ما دفعه للانتقال من القصص الإنسانية إلى الصحافة الاستقصائية. بدأ مراسلاً لصحيفة دنيا الوطن، ثم توسع في إعداد تقارير إنسانية، وحصل عام 2019 على جائزة من الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان عن تحقيق حول البطالة في غزة.

ورغم ضيق الحال، واصل إنتاج تحقيقاته على حسابه الخاص، حتى اضطر أحياناً للاقتراض كي يستكمل عمله. التحق لاحقاً بمنصة مسبار لمكافحة الأخبار الكاذبة والتحقق من الحقائق. كما سعى للتطوير، فانتقل من السياسة إلى المحتوى العلمي، وبدأ يحظى بمتابعة واسعة على يوتيوب وإنستغرام.

مع بدء الحرب، نزح مع أسرته من جباليا إلى رفح، ثم إلى دير البلح وأخيراً قرب مستشفى الشفاء. ورغم العروض من وكالات أجنبية، فضل البقاء ليحمل صوت غزة إلى العالم، بأسلوب مقارن بين حياة الداخل والخارج.

كان إنساناً عطوفاً على الأطفال، يوثق جوعهم ثم يحاول مساعدتهم، وينشر أحياناً بيانات التواصل مع عائلات محتاجة عبر حساباته. وفي إحدى المرات، سأله زميله عما يود فعله بعد الحرب، فأجاب مبتسماً: "أريد أن آكل شاورما مع الكثير من الطحينة".

قبل يومين من استشهاده، اتصل به شقيقه ليعرض شراء خيمة خاصة له، لكنه رفض قائلاً: "أريد أن أبقى مع زملائي". تحدثا عن أحلامه، وأكد أنه يتطلع للسفر بعد الحرب ومواصلة صناعة المحتوى.

يختم أنس قائلاً: "أنا فخور بأخي، باستشهاده، وبسمعته الطيبة كصحفي، وبقلبه النقي. كان صحفياً بارعاً، لكنه كان إنساناً رائعاً".

 

-الصحفي أنس الشريف "28 عاماً"، مراسل قناة الجزيرة في غزة، اغتيل على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد مسيرة قصيرة وحافلة بالعمل الصحفي.

 

ويقول شقيقه محمود الشريف، إن "أنس، أصغر أبناء العائلة والمدلل لدى والدته، أدى واجبه المهني رغم التهديدات المستمرة التي تلقاها من الجيش الإسرائيلي"، مضيفاً أن شقيقه "لم يكن يتمنى الموت، بل كان يحلم بإنهاء الإبادة والعيش بأمان مع زوجته وطفليه ووالدته".

أنس، الذي لم يغادر غزة قط، كان يتطلع للسفر بعد انتهاء الحرب لتلبية دعوات دولية لشهادته على معاناة الفلسطينيين، وأداء مناسك الحج والعمرة. غير أن تهديدات إسرائيل المتكررة، خصوصاً من الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، جعلته يظهر في مقاطع بدا فيها وكأنه يستعد للموت.

بدأ أنس مسيرته كمصور حر قبل أن تعتمده الجزيرة مراسلاً ميدانياً مع تصاعد الحرب في ديسمبر 2023، بعد نجاحه في إيصال الأخبار رغم انقطاع الاتصالات. وقد تزامن ذلك مع مأساة شخصية حين فقد والده في قصف إسرائيلي على منزل العائلة في 11 ديسمبر من العام نفسه.

عرف أنس بشجاعته ومبادرته، إذ أثار غضب الاحتلال بتغطيته لمجازر استهدفت مدنيين كانوا بانتظار المساعدات في شمال غزة، كما وثّق بالمشاهد والصور معاناة السكان تحت الحصار والمجاعة. وظهر في تقارير عدة متأثراً بالبكاء على الأطفال والشيوخ الجوعى.

واجه الصحفي الراحل خسائر مؤلمة أخرى، أبرزها استشهاد زميله إسماعيل الغول وإصابة المصور فادي الوهيبي بالشلل نتيجة قصف إسرائيلي، حيث عمل أشهراً من أجل نقله للعلاج خارج القطاع.

وبحسب شقيقه، فإن إسرائيل اتهمت أنس بالانتماء إلى حركة حماس، "لكن الحقيقة أنه لم يكن منتمياً لأي فصيل سياسي، واستُهدف فقط لإسكات صوت غزة".

ويضيف: "رفض عروض إجلاء دولية وأصر على البقاء بين أبناء شعبه، مؤكداً أنه سيسافر فقط بعد انتهاء الحرب، لا قبلها".

قبل استشهاده بساعات، تحدث أنس مع شقيقه عن اجتياح متوقع لغزة، مؤكداً أنه لن يغادر ويفضّل الشهادة على النزوح. وترك وصية لدى صديق خارج القطاع، أوصى فيها بحمل رسالة فلسطين إلى العالم، وأوكل أسرته وطفليه إلى ضمير الإنسانية.

 

-الصحفي محمد نوفل "29 عامًا".. اغتيل مع رفاقه قرب مستشفى الشفاء

 

يروي المصور الصحفي إبراهيم نوفل اللحظات الأخيرة لشقيقه محمد، الذي كان يعمل مصورًا لقناة الجزيرة، قائلاً: "آخر ما قاله لي محمد: اذهب ونم في البيت، لا تنم في خيمتنا. لا أريد أن يموت أبي حزينًا بفقداننا معًا. بعد ساعات، قتلته إسرائيل مع أصدقائي أنس الشريف، محمد قريقه، وإبراهيم زاهر داخل خيمة قرب مستشفى الشفاء، حيث كنت قبل قليل".

ويضيف إبراهيم: "إسرائيل قتلت شقيقي في 10 أغسطس 2025. قبل ذلك قتلت أمي منيرة (57 عامًا) في 22 يونيو 2025، وأخي عمر (33 عامًا) في 7 أكتوبر 2024. لقد أرهقني الفقد والحزن".

وكان محمد، المعروف بـ"أبو يحيى"، شابًا رقيقًا وطيب القلب، أحبه الجميع خاصة والدته. أحب الطبخ وكان يدعو أصدقاءه إلى المنزل ليعد لهم أطباقًا لذيذة. قضى معظم وقته بين عائلته وأصدقائه، كما اعتنى بأشجار العائلة من تين وعنب وخوخ وليمون وزيتون، وزرع القصب أيضًا. كان متدينًا ومواظبًا على الصلاة، ويخطط للزواج.

يقول شقيقه: "رغم أنه كان يكبرني بعام واحد، إلا أنني كنت ألجأ إليه دائمًا، كان ملاذي وسندي في الدنيا".

مثل جميع سكان غزة، ذاق محمد مرارة النزوح والقصف والجوع. في 30 أكتوبر 2023 قصفت إسرائيل المكان الذي كانوا يحتمون فيه في جباليا، فنجا إبراهيم من تحت الركام، بينما أصيب محمد بكسور في الحوض بعد أن ألقي بجسده فوق سطح جار. في ذلك اليوم فقدت العائلة 11 فردًا من أقاربها.

مكث محمد لتلقي العلاج في مستشفى إندونيسي حتى 22 نوفمبر 2023، حين اجتاحت القوات الإسرائيلية المستشفى وسط قصف كثيف. اضطر إبراهيم وصديقه الصحفي أنس الشريف للفرار، تاركين محمد المصاب خلفهم. وبعد فترة، طلب والدهما من إبراهيم الانتقال جنوبًا بسبب سوء الوضع في الشمال.

رغم إصاباته، تمكن محمد من مغادرة المستشفى على عكاز حتى وصل إلى جباليا، حيث بقي بجوار أنس الشريف، مرافقًا له ومساعدًا في عمله رغم التهديدات الإسرائيلية.

يقول إبراهيم: "الإبادة أودت بكل أصدقاء محمد، زملاء طفولته ومدرسته وجيرانه. عشت لحظات لا تُحتمل، كحمل جثمان أمي، ثم جثمان محمد".

بعد عودة العائلات للشمال خلال الهدنة، التقى إبراهيم بشقيقه من جديد: "كان نحيلًا وجائعًا لكنه كان من أسعد لقاءات حياتي".

وعن يوم اغتياله، يروي إبراهيم: "قضيت معه ومع الأصدقاء معظم النهار. أعددنا سلطة من خضروات باهظة الثمن، وضحكنا ونحن نتحدث على تهديدات أفيخاي أدرعي لأنس. في الليل أردت النوم في خيمتهم، لكن محمد رفض. ذهبت لجلب ثيابي من الغسيل، وفي الطريق التقيت أصدقاء أصروا أن أجلس معهم على الشاي نصف ساعة، وفجأة سمعت صوت صاروخ. قلبي أخبرني أن الخيمة أصيبت".

بعد اتصالات متفرقة، تأكدت الفاجعة. في مستشفى الشفاء، وجد إبراهيم جثمان شقيقه ممزق الرأس ومبتور الذراعين. يقول: "كان أعمق ألم عشته. فقدت أخي وأصدقائي دفعة واحدة".

ويتابع: "وضعت محمد في ثلاجة المشرحة ونصحت أبي وأخواتي بعدم الحضور بسبب القصف الجنوني بعد استشهادهم. قضيت الليل نائمًا بجواره في المشرحة. في اليوم التالي دفنته، وطلبت أن يظل كفنه مغلقًا، حتى يتذكره الناس بوجهه الجميل وابتسامته".

 

-محمد قريقع صاحب الـ33 عامًا "صحفي"

 

وقال فايز قريقع، ابن عم صحفي الجزيرة محمد قريقع: "إن محمد، الذي كان الابن الوحيد لوالدته بعد وفاة والده عقب ولادته، عاش حياته كلها برفقتها. درس الإعلام والصحافة وتخرج من الجامعة الإسلامية في غزة".

منذ صغره عُرف محمد ببلاغته وقدرته على التعبير، وخلال حرب 2008 كان يرافق الصحفيين ويتعلم من عملهم. عمل مستقلاً لعدد من القنوات قبل الحرب، وكان معروفًا بروحه المرحة وأخلاقه العالية، إذ كان يلجأ إليه أقاربه لرفع معنوياتهم في لحظات الشدة.

وأضاف فايز أن محمد كان ابنًا بارًا بوالدته، وكان يقول دائمًا إن أمه وزوجته وطفليه هم حياته كلها. نشأ في حي الشجاعية بغزة، الذي ارتبط به كثيرًا. وكغيره من سكان القطاع، عانى النزوح والجوع والخسارات المتكررة.

وعندما اقتحمت قوات الاحتلال مستشفى الشفاء، كان محمد ووالدته المريضة والمسنّة يحتميان داخله. لكن الجنود فصلوا بين الرجال والنساء، وأُجبر على المغادرة جنوبًا. رفض ترك والدته، لكن مع طول الحصار عجز عن البقاء معها. وبعد انسحاب القوات بـ14 يومًا، عثر على جثمانها متحللاً في درج المستشفى.

فقدان والدته كان ضربة قاسية له، خاصة أن زوجته وطفليه كانوا قد نزحوا إلى جنوب غزة، فبقي وحيدًا محطمًا نفسيًا. رغم ذلك واصل عمله الصحفي المستقل حتى انضم رسميًا إلى شبكة الجزيرة بعد اغتيال الصحفي إسماعيل الغول.

وتابع فايز، "أن محمد كان يعاني من عجزه عن توفير الغذاء لعائلته بسبب المجاعة. لم يكن معتادًا على المبيت في خيمة الصحفيين، لكن في ليلة اغتياله كان يقف عند مدخل الخيمة يستعد للمغادرة، حين أصابها صاروخ إسرائيلي أرداه قتيلًا على الفور".

وختم فايز حديثه بالقول: "عندما سمعت بخبر اغتيال أنس الشريف، لم أتخيل أنني فقدت أيضًا محمد – ابن عمي وصديقي. لم يكن يمكث كثيرًا في تلك الخيمة. رحيله خسارة لا تُحتمل، ليس لعائلتنا فقط، بل لكل غزة. كان محبوبًا وطيبًا، دائم الاستعداد لمساعدة الآخرين".



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك