شنّ الاحتلال الإسرائيلي غارة جوية عنيفة على مدينة غزة، قال إنها استهدفت المتحدث باسم كتائب القسام أبو عبيدة. وزعمت وسائل إعلام عبرية أن الغارة كانت محاولة لاغتياله.
وأقرت هيئة البث الإسرائيلية بأن العملية ما زالت غير مؤكدة النتائج، مؤكدة أن اغتيال أبو عبيدة "إذا نجح سيكون بالغ الأهمية"، لكنها أشارت إلى وجود "انتظار لنتيجة القصف"، في إشارة واضحة إلى عدم التيقن من استشهاد المتحدث باسم المقاومة الفلسطينية.
الأيقونة الملثم
رغم تغييب هويته الحقيقية واسمه الأصلي، ظلّ أبو عبيدة حاضرًا بظهوره المتكرر طيلة سنوات، ملتفًا بكوفيته التي لا تكشف سوى عينيه، وترسّخ في ذهن المتابع العربي كوجه أيقوني للمقاومة الفلسطينية. لم يعد مجرد ناطق عسكري يقرأ بيانات صماء جامدة، بل صاحب خطابات بليغة تنبض بالثقة والصمود.
ويتلقى مستمعوه كلماته كمعايشة حية لمعركة المواجهة ضد المحتل، حيث تبدو عباراته جزءًا من سلاح المقاومة، لا يقل أثرًا عن ضربات الرصاص ودوي الصواريخ.
رسالته الأخيرة؟
قبل يوم من الغارة، حذر أبو عبيدة في بيان من أن أي محاولة إسرائيلية لاقتحام مدينة غزة ستعرّض حياة الأسرى الإسرائيليين للخطر. وألقى بالمسؤولية الكاملة على الحكومة وجيش الاحتلال، مؤكدًا أن الحركة ستبقي الأسرى إلى جانب مقاتليها في جبهات القتال "قدر المستطاع".
كما هدد بالكشف عن صور وأسماء وأدلة وفاة لأي أسير يلقى حتفه خلال الضربات الإسرائيلية، متهمًا تل أبيب بأنها تسعى عمدًا إلى "تقليص عدد الأسرى الأحياء وإخفاء جثامين القتلى"، ومتوعدًا بأن "الاحتلال سيدفع ثمنًا دمويًا".
أسر شاليط.. انطلاقة الصوت المقاوم
منذ ظهوره الأول، حرص أبو عبيدة على الجمع بين البيانات العسكرية وتوجيه التهديدات المباشرة للاحتلال ومستوطنيه. ففي يونيو 2006، توعّد بتحويل مستوطنة سديروت إلى "مدينة أشباح" ردًا على تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، قبل أن يعلن لاحقًا عملية أسر الجندي جلعاد شاليط في عملية الوهم المتبدد.
وفي أبريل 2008، وخلال مؤتمر تبنّي عملية «حقل الموت» الفدائية، أطلق واحدًا من أشهر تصريحاته، حين قال إن أمام الجندي الصهيوني أربعة خيارات فقط عند دخوله غزة: "إما أن يسقط قتيلاً، أو يقع أسيرًا، أو يصاب بإعاقة مستديمة، أو يعود بمرض نفسي إلى الأبد، ولن يعود منتصرًا بأي حال".
ومع اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (2008–2009)، الذي سمّاه الاحتلال «الرصاص المصبوب» بينما أطلقت عليه المقاومة اسم «معركة الفرقان»، برز دور أبو عبيدة لأول مرة كناطق عسكري رسمي في حرب شاملة. صار صوته واجهة المقاومة في مخاطبة الفلسطينيين والعرب، وكشف خسائر الاحتلال، ورفع المعنويات بتقارير متتابعة عن أداء المقاتلين وصمود الجبهة الداخلية. ومنذ تلك اللحظة، تحوّل إلى صوت المعركة المدوي، وواجهة إعلامية ثابتة للمقاومة في كل مواجهة لاحقة.
محطات بارزة
في يونيو 2020، ومع إعلان الاحتلال خطط ضم أجزاء من الضفة الغربية، ظهر أبو عبيدة بتصريح ناري أكد فيه أن المقاومة ستدافع بأمانة عن الشعب الفلسطيني، متوعدًا بجعل العدو "يعضّ أصابعه حزنًا" على ما وصفه بالقرار الخاطئ، وواصفًا تلك الخطط بأنها "إعلان حرب". كان ذلك الخطاب بمثابة تثبيت لمعادلة جديدة تقول إن المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي محاولة لتصفية القضية.
وفي مايو 2021، خلال معركة سيف القدس، بلغ حضور أبو عبيدة ذروته، إذ تحوّل مجرد الإعلان عن كلمة له إلى حدث تتوقف عنده شوارع كاملة في غزة وبعض المدن العربية. خطابه في ذاك الوقت رسّخ صورته كصوت واثق، حين وصف الضربات الصاروخية التي استهدفت تل أبيب والقدس وديمونة وأشدود وعسقلان وبئر السبع بأنها "أهون علينا من مياه الشرب". وبعد انتهاء المعركة، خاطب جمهوره برسالة حاسمة قال فيها: "تمكنا بعون الله من إذلال العدو وكيانه الهش وجيشه الغاشم".
وفي سبتمبر 2021، وبعد أن أعاد الاحتلال اعتقال الأسرى الذين تمكّنوا من الهروب من سجن جلبوع في واحدة من أجرأ العمليات الفدائية، أعلن أبو عبيدة بوضوح أنه لن يكون هناك أي صفقة تبادل مستقبلية مع الاحتلال ما لم تشمل إطلاق سراح هؤلاء الأبطال. هذا الموقف شدّد مرة أخرى على أن ملف الأسرى بالنسبة للمقاومة خط أحمر لا يقبل المساومة.
أبو عبيدة معذبهم: الموسيقى تتغزل في صوت المقاومة
في مايو 2021، اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي المغني الشعبي في الداخل الفلسطيني معين الأعسم، وحققت معه على خلفية أغنيته «غزة بلد الكرامة» التي يمجّد فيها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
وتقول بعض كلمات الأغنية: «أبو عبيدة معذّبهم.. ليلة بليلة بيرعبهم»، و«يا غزة بلد الزعامة.. هاللي ربيت عالكرامة». وقد لاقت الأغنية انتشارًا واسعًا، خصوصًا عبر منصة تيك توك، حيث تحولت إلى مقاطع متداولة بين الجمهور الفلسطيني والعربي.
وبعد ساعات من التحقيق، أفرج الاحتلال عن الأعسم، لكن الحادثة أثارت ردود فعل غاضبة اعتبرتها الأوساط الشعبية محاولة جديدة من إسرائيل لخنق الأصوات الفنية التي تعبّر عن وجدان الناس وانحيازهم للمقاومة.
وفي يونيو 2024، وظفت كتائب القسام الموسيقى في رسائلها الإعلامية، فبثّت مقطعًا مصوَّرًا على أنغام أغنية فرقة «كايروكي» الشهيرة «تلك قضية». المقطع تضمّن مقتطفات من خطاب سابق للناطق باسمها أبو عبيدة، يقول فيه: «نحن غزة، بسمائها وهوائها وبحرها ورمالها، وسنذكركم في كل مرة بأنها مقبرة للغزاة، ووحل لا قاع له للمحتلين عبر العصور».
اختيار هذه الأغنية لم يكن عابرًا، فهي تحمل وقعًا جماهيريًا واسعًا، ما منح الرسالة بعدًا ثقافيًا وشعبيًا يتجاوز حدود غزة إلى المحيط العربي. وهكذا، امتزج صوت المقاومة مع موسيقى معاصرة.
المقاومة تنتصر في الحرب الإعلامية
في أبريل عام 2020، دشنت كتائب القسام قناة خاصة عبر تطبيق "تليجرام" حملت اسم "أبو عبيدة – الناطق العسكري باسم كتائب القسام"، لتكون قناة إضافية لبث تصريحات وبيانات الملثم، الذي صار مصدرًا للمعلومات ومجريات جبهات القتال.
وتناولت وسائل إعلام عبرية تصاعد الانتقادات داخل إسرائيل إزاء التدهور الحاد في صورتها الخارجية خلال الحرب الجارية على قطاع غزة، محذّرة من أن الحملة العسكرية أفقدت تل أبيب الكثير من رصيدها الدولي، ودَفعت عواصم غربية إلى النظر إليها بوصفها "طرفًا متوحشًا"، في مقابل إشادة بقدرة حركة حماس على توظيف الرواية الإعلامية لصالحها بذكاء.
وفي هذا السياق، انتقدت تال شنايدر، مراسلة الشؤون السياسية في موقع تايمز أوف إسرائيل، ما وصفته بغياب القيادة الإعلامية داخل إسرائيل، مشيرة إلى أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتصرّف كما لو كان "سيد الرواية"، بينما الواقع – على حد قولها – أنه فشل في إدارة الخطاب الرسمي للدولة أمام الرأي العام العالمي.