دار حديث حول أسلوب باراك أوباما فى صنع سياسته الخارجية. تخللته إشارات مفيدة ومعلومات جديدة. بقيت أمور غامضة وهذه على كل حال سمة الأحاديث حول صنع السياسة فى كل مكان. أتى الحديث إلى نهايته ولم ينكشف غموض بعض هذه الأمور. استعدت بعض ما دار فى الحديث عندما بدأت أتابع رحلة أوباما المكوكية فى دول أربع فى شرق وجنوب شرقى آسيا، وتوقفت أمام معضلة العلاقة بين الصين واليابان، وبخاصة النزاع على ملكية الجزر الصخرية فى بحر الصين الجنوبى، ودور أمريكا فيه منذ أن غرست بنفسها بذرته الأولى قبل حوالى ستين عاما.
•••
تبدأ جميع رحلات أوباما بمشاهد يظهر فيها وهو يهبط من سلم الطائرة قفزا، متعمدا فيما يبدو أن يترك لدى المشاهد الانطباع بأنه يريد أن يؤكد لمستقبليه والرأى العام أن السياسة الخارجية الأمريكية مازالت نشيطة نشاط شاب فى مقتبل العمر، أو أنها سياسة كثيفة البنود إلى حد يجعلها تعانى من أسر الوقت وضغوطه. بمعنى آخر، تتلاحق المشكلات الدولية وقضايا السياسة الخارجية ضاغطة على الرئيس الأمريكى، كل مشكلة منها أو قضية تريد أن تحظى بالمساحة الأكبر من وقت الرئيس، وكلها مجتمعة تتجاهل حقيقة أن الرئيس تنتظره مشكلات داخلية، بعضها، إن لم يكن أغلبها، أشد أهمية وأكثر إلحاحا. تذكرت خطابا ألقاه أحد قدامى الدبلوماسيين الأمريكيين فى مؤتمر عقد مؤخرا، عرض فيه لأهمية عنصر «الوقت» فى صنع السياسة الخارجية. قال إن باراك أوباما يعى تماما خطورة أن يستولى الشرق الأوسط وقضاياه على «وقت الرئيس»، ويضرب المثل بالرئيس ترومان حين استولت قضايا الشرق الأقصى على وقته، وبسببها فقد ترومان الكثير من شعبيته وشعبية حزبه لدى الرأى العام الأمريكى.
يستطرد المستر فريدريك هوف الدبلوماسى الأمريكى، وهو أيضا مستشار بالمجلس الأطلسى، أحد أكبر مراكز العصف الفكرى فى واشنطن، فيقول إن هذا الوعى من جانب أوباما بأهمية المساحة التى يمكن أن تحتلها قضايا الشرق الأوسط من وقت الرئيس، دفعه إلى تشكيل لجان عمل، تختص كل لجنة منها بعدد من القضايا الخارجية المهمة. تعمل هذه اللجان من داخل البيت الأبيض، ويمكنها أن تستشير جهات أخرى فى الدولة مثل وزارتى الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات، ولكنها لا تترك لأى من هذه الجهات حق التدخل المستقل فى التصرف بهذه القضايا دون العودة إليها. قضايا الشرق الأوسط مثلا تدخل فى اختصاص لجنة ترأسها السيدة سوزان رايت، وهى، حسبما يتردد فى أروقة واشنطن، لا تعود إلى الرئيس إلا عندما ينضج القرار ويحصل على مباركة الجهات الأخرى ذات الاختصاص. عندئذ يرفع فحوى القرار إلى الرئيس لإقراره. هكذا يطمئن الرئيس ومستشاروه المقربون إلى أنه لن يتعرض لنزيف الوقت الذى تسببت فيه قضايا الشرق الأوسط مع رؤساء سابقين، فضلا عن أنه تخلص من ضغوط الاتصالات المباشرة من جانب ذوى المصلحة فى استصدار قرار بعينه أو الالتزام بموقف محدد.
يعود لهذه اللجنة المختصة بالشرق الأوسط الفضل الكبير فى وضع ما يطلق عليه أحيانا «مبدأ أوباما»، وعبر عنه التقرير عن السياسة الخارجية الذى وضعته اللجنة وتضمنه خطابه فى الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 2013. لم يأت أوباما، أو لجنة رايس، بجديد لم نكن سمعناه من قبل على لسان رئيس أمريكى أو آخر. تحدث عن مصالح أمريكا فى المنطقة كما يراها وهى ضمان تدفق الطاقة، وكشف معاقل الإرهاب، والقضاء على أسلحة الدمار الشامل، بالإضافة إلى أمن إسرائيل. كان الواضح فى ذلك الحين ان أوباما قد وطد العزم على ان تبقى قضية سوريا فى موقع متدنٍ ولكن لأجل طويل فى قائمة قضايا الشرق الأوسط، وأنه وطد العزم أيضا على ألا تستدرجه هذه القضية، أو أى قضية أخرى فى الشرق الأوسط، ليوليها وقتا يجور على وقت تستحقه قضايا ومصالح أخرى فى بقية أنحاء العالم.
•••
أعرف عن خبرة وتجارب شخصية أن قراءة التقارير السنوية أو الدورية التى تصدرها جهات تساهم فى صنع السياسة يحتاج إلى تدريب خاص. أعرف جيدا، كما يعرف كل من تابع عن قرب أو عمق عمليات صنع القرار فى السياسة الخارجية، أن وقت الرئيس، لا يزال وسيبقى أحد أهم أرصدته القابلة للنفاذ. بمعنى أن سوء استخدام هذا الرصيد، أو سوء توزيعه على القضايا والاهتمامات، يمكن أن يؤدى إلى كوارث وأزمات، تماما كما يحدث فى حال العجز عن تقدير الموارد اللازمة للجيوش عند الإعداد للحرب أو كما يحدث عند الاختيار السيئ للقادة العسكريين والمفاوضين الكبار.
أعرف أيضا، أن الرئيس أوباما، حاول أكثر من أى رئيس آخر، تقليص «الوقت» الرئاسى اللازم لتصريف شئون السياسة الخارجية والقضايا الدولية، بحيث يترك للعمل الداخلى النصيب الأوفر من وقته، ولعله أفلح فعلا إلى حد كبير. فقد تخلص من العبء العراقى الذى ورثه عن الرئيس بوش وترك العراق ليتمرغ وحده فى حظه العاثر. بل لعلنا لا نتهمه إذا قلنا إن أوباما يتعمد ألا يضيع من وقت رئاسته دقائق ولو معدودة لينظر إلى حال العراق بعد حرب مدمرة وشريرة شنتها الولايات المتحدة على الشعب العراقى. بل ويحاول الآن التخلص بسرعة من أفغانستان رغم أنها لم تعد تستهلك من وقته ما كانت تستهلكه فى ولايته الأولى. كذلك نراه لا «ينفق» وقتا يذكر على الكارثة السورية، ويكاد لا يهتم بتطور الأمور فى «المسألة المصرية» تاركا إياها لمستويات أقل شأنا فى عملية صنع القرار الأمريكى. معروف أيضا أنه أزاح عن جدول أعماله معظم أعباء أمريكا اللاتينية.
من ناحية أخرى أفلح أوباما، أو كاد يفلح، خلال السنوات الأخيرة فى أن يتحلل تدريجيا من التزامات «الوقت» الذى خصصه رؤساء سابقون لقضايا السياسة والدفاع فى أوروبا الغربية. صار يتهرب من مؤتمراتها ولقاءاتها، ولم يتردد فى أن يترك الانطباع بأنه راحل بمعظم «وقته» وغيره من موارد القوة والنفوذ إلى شرق آسيا، هناك تبدأ أمريكا مرحلة جديدة.
إن صح هذا التصور، يصبح مشروعا التساؤل عن موقع أحداث أوكرانيا فى مساحة الاهتمام الأمريكى بالقضايا الخارجية. علق معلقون على الاهتمام الأمريكى المبالغ فيه بالقول: لعل أوباما عاد نهائيا أو مؤقتا عن مشروع التحول الاستراتيجى إلى شرق آسيا. قال آخرون، لعلها صحوة مفاجئة لفلول الحرب الباردة فى النظام السياسى الأمريكى، ها هم يشنون على روسيا حربا إعلامية شرسة تذكرنا بأبشع أيام الحرب الباردة.
أما ما يستحق التوقف عنده طويلا، فهو الرأى القائل بأن ما يحدث فى أوكرانيا، وبمعنى أدق، ما يدبر فى أوكرانيا من حصار لروسيا وتقليص لنفوذها وتبديد لطاقتها العسكرية والاقتصادية، لا يخرج كثيرا عن منظومة الحرب غير المتكافئة التى تفرضها الولايات المتحدة على العالم. أوباما، وبمعنى أشمل أمريكا، ليس من مصلحتهما الدخول فى حروب «عسكرية» مع أى دولة فى العالم. أميل شخصيا إلى رأى يعتقد أن سياسة تخفيض نفقات التسلح والحرب فى موازنات أمريكا لا تتعلق بظروف طارئة أو مؤقتة، إنما هى سياسة مرتبطة أوثق الارتباط برؤية تهدف إلى إعادة بناء أمريكا تحتيا وفوقيا. فى الوقت نفسه، لن يكون فى مصلحة أمريكا أن تترك الدول «المنافسة» تقوى بدون رادع أو مانع. هنا يأتى دور مواصلة الحرب بوسائل أخرى، مثل الضغط الدبلوماسى العنيف أحيانا والشرس معظم الوقت، ومثل الإغراق الإعلامى، مستفيدة من انتشار وسائط التواصل الاجتماعى والهيمنة العنكبوتية الأمريكية. الهدف هو إثارة المتاعب لحكومات بعينها، وإجبارها على أن تكون على أهبة الاستعداد الأمنى والإنفاق العسكرى طول الوقت.
هذه الحرب هى الناشبة حاليا مع كل من روسيا والصين وإيران ودول متناثرة بدرجات متفاوتة. وهى حرب غير متكافئة، بمعنى أن لا روسيا ولا الصين ولا إيران ولا عشرات الدول المتناثرة لديها الإمكانات التى تساعدها على إثارة الشعب الأمريكى ضد حكومته، لتشغلها بثورته وتعطل تقدمها وتقيد حركتها الدولية.