بدأت العشر الأوائل من ذى الحجة، وإذا كانت ليلة القدر مجهولة ويحتاج تحريها إلى قيام خمس ليالى كاملة لإدراكها فإن يوم عرفة معلوم لا يحتاج إلى بحث، ومن تركه بعد ذلك دون أن يوفيه حقه فقد ضيع أعظم أيام عمره، فيوم عرفة هو أعظم أيام الله قاطبة.
وإذا كانت ليلة القدر تتنزل فيها الملائكة، فإن الله ينزل يوم عرفة يباهى بعباده ملائكته بالحجاج الواقفين على عرفة وبالطائعين عامة يقول: انظروا يا ملائكتى، هؤلاء عبادى جاءونى شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم يا ملائكتى أنى قد غفرت لهم.
والعبادة يوم عرفة أسهل من العبادة ليلة القدر، فيوم عرفة لا يحتاج إلا للذكر، وأن تردد حتى وأنت مستلقى على فراشك «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير».
أما العبادة فى ليلة القدر فهى أصعب وأشق، قيام وذكر ودعاء وقراءة قرآن فهل يفوتنا شرف يوم عرفة «خير يوم طلعت عليه الشمس».
القرآن الكريم يمكن أن يضبط حياتنا كلها، فهو يضبط أصواتنا «وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ» بدلا من الهياج والصراخ وارتفاع الأصوات بين الزوجين أو الأقارب أو الجيران أو فى المواصلات العامة أو فى الشارع حتى تحولت بلادنا إلى حالة من الضجيج الفظيع والتلوث السمعى الذى لا حد له، ترى لو انضبطت أصواتنا بهذه الآية لصار المجتمع كله فى سكينة.
ويضبط حركتنا ومشيتنا ليست الظاهرية فحسب ولكن حركة القلب والعقل «وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحا ۖ» آه لو انتهى الكبر والغرور والشموخ الكاذب من الأرض.
ويضبط سمعنا «وَلَا تَجَسَسُوا» والله لو تركت البشرية التلصص والتجسس على الآخرين لانتهت مآسٍ كثيرة.
ويضبط مجالسنا «وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضا ۚ» ووالله لو ترك المجتمع الغيبة لحلت نصف مشاكله الاجتماعية واختفت الخلافات الزوجية ولتوقف قطار الطلاق الذى يجرى سريعا.
ويضبط تصريحاتنا وفتاوى الناس فى كل شىء بغير علم ولا هدى «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ» ولو أن كل واحد تحدث فقط فى تخصصه وفيما يحسنه لانتهى نصف الجهل ومعظم مآسى العصر.
ويضبط كلماتنا «وَقُولُوا لِلنَاسِ حُسْنا» الناس كل الناس؛ المسلم والمسيحى واليهودى والشيعى والسنى والعسكرى والمدنى والبوذى والهندوسى والليبرالى والاشتراكى وأرباب كل الأديان والجنسيات، القرآن يأمرنا قولوا لها حسنا، لتطيب الحياة للجميع وبالجميع، وتتزين الدنيا بالكلمة الطيبة فأكثر مشاكل كل الدنيا وحروبها وصراعاتها تبدأ بكلمة نابية فظة حربية تكفيرية استعلائية عدائية عنصرية.
ويضبط طعامنا وشرابنا بالوسطية «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُواۚ» ولو توقفت البشرية عن الإسراف ما بقى جائع ولا يتيم ولا فقير على وجه الأرض، فطعام الأرض يكفى الجميع ولكن سرف البعض وجشعهم هو الذى أضاع اليتيم والفقير والمحروم.
وصدق على بن أبى طالب فى قولته الشهيرة «ما جاع جائع إلا لأن غنيا حرمه من حقه من الزكاة» وصدق ابن القيم حين يقول: «عاش الناس على مرادهم فهلكوا ولو أنهم عاشوا على مراد الله وشرعه لنجوا ونجحوا».
القرآن ورسالات الرسل جاءت لتكون حياة الناس أكثر سعادة وعدلا وإحسانا ورفقا ورحمة، وكل من حاد عن رسالات السماء تعب فى الدارين وأتعب من حوله وشقى وأشقى من حوله.