أين تذهب طيور المحيط؟ - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 27 سبتمبر 2025 9:17 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لقمة الأهلي والزمالك المقبلة؟

أين تذهب طيور المحيط؟

نشر فى : السبت 27 سبتمبر 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : السبت 27 سبتمبر 2025 - 7:50 م

أحب كتب الرحلات، ربما لأننى لا أحب السفر فى الواقع، فأعوّض ذلك بالسفر عبر الورق والخيال، وأحب أكثر كتب الرحلات التى يكتبها الروائيون، فتتحول الرحلة عبر سطورهم إلى نصوص أدبية مدهشة، مثل لوحاتٍ ملوّنة مرسومة بالكلمات.
أسعدنى أن أجد ضالتى فى هذه الطبعة الجديدة الصادرة عن دار المعارف من كتاب رحلاتٍ للروائى الكبير إبراهيم عبد المجيد، اختار له عنوانًا يصلح أن يكون عنوان رواية أو ديوان شعر، هو: «أين تذهب طيور المحيط؟»، معبّرًا بذلك عن تساؤل طرحه الكاتب على نفسه، وهو يتابع طيور مدينة لاروشيل الفرنسية، وقد اختفت فوق المحيط فى المساء، وظل سؤاله معلّقًا بلا إجابة!


يمنح الروائى الرحلات أفقًا واسعًا، فإذا كان بموهبة عبد المجيد الذى يمتلك قدرة الحكى الشفاهى أيضًا، والذى كتب يومًا كتابًا ممتعًا يحكى فيه حكايات تأليف رواياته، والذى قال لى يومًا إنه يظل سعيدًا وبخير ما دامت لديه رواية جديدة يكتبها، فإن متعة السرد هنا ستكون مؤكدة، وستبقى بين الروائى والرحّالة المسافر تشابهات وثيقة: فلا هما يتوقفان، ولا هما يصلان، ولا هما يشبعان من الترحال!


هى - إذن - رحلات أدبية، ليست فقط بمعنى كتابتها كحكايات شيقة، ولكن أيضًا لأن معظمها كان فى إطار مناسباتٍ أدبية، وبصحبة أدباء، وحافلة بالأنشطة واللقاءات الأدبية. وقد يمارس عبد المجيد الكتابة أثناء الرحلة، كما حدث فى رحلته الأولى إلى مدينة لاروشيل التى استمرت لمدة ثلاثة أشهر.


من زيارة موسكو وباريس لأول مرة، إلى اكتشاف المغرب، تصبح الزيارات أسئلة وحوارات ومقارنات حية، ممتزجة مع حضور عارم للمكان وللبشر، مضافًا إليهما عنصر الزمان. فالرحلات امتدت زمنيا إلى سنوات تبدأ من مطلع التسعينيات، وتنتهى بالعام 2015. وخلال تلك الفترة جرت فى نهر الحياة مياه كثيرة، مصريا وعربيا وعالميا. ومن هنا أصبحت كل رحلة شاهدة على زمنها، وكأنها وثيقة تستحق التأمل.


تخيّل معى أن يذهب الكاتب إلى موسكو لأول مرة فى ذروة البروسترويكا والجلاسنوست، وفى زمن الأفول والنهايات، وأن يصل إلى لاروشيل لأول مرة فى العام 2001، فى ذروة جنون بن لادن، وجنون أمريكا المضاد!


صحبة الأدباء أيضًا ممتعة، وكذلك حواراتهم ومناقشاتهم. انظر - مثلًا - إلى لقاء يومى على مقهى النجمة الذهبية فى باريس بين إبراهيم عبد المجيد، وإبراهيم أصلان، وجميل عطية إبراهيم، وإدوار الخراط. واقرأ عن جدل عبد المجيد مع محمد البساطى، ومحمد عفيفى مطر فى قاعات متحف اللوفر، وابتسم من سخرية جميل عطية إبراهيم فى إحدى الندوات، منتقدًا نظرة الغرب إلى الشرق، ومقترحًا «فكرة رواية» تبدأ بفتنة طائفية بين المسلمين والأقباط، ثم يتم اختطاف فتاة تُقام لها طقوس الختان، ثم يتزوج البطل البطلة، ويذهبان معًا إلى زيارة إسرائيل تدعيمًا للسلام العالمى!! ستكون حقًّا رواية كاملة الأوصاف وفقًا للنظرة الغربية، وستُترجَم على الفور!


بدا لى أن حضور الأدباء المصريين والعرب والفرنسيين والروس قد منح تلك الرحلات مزيدًا من الطرافة، وفتح أيضًا مجالًا لأسئلة كثيرة ومهمة. ومرة أخرى، فإن الجائزة فى الرحلة والتواصل، وليست فى النتيجة أو الوصول.


ولكن مفهوم الرحلة فى الكتاب يتجاوز المكان إلى عمق الزمن. بل إن دُرّة فصول الكتاب هو ذلك الفصل الذى يأخذنا فيه عبد المجيد فى رحلة «زمكانية» على طول الساحل من الإسكندرية إلى مرسى مطروح، والذى تقطع فيه النص مقتطفاتٌ من صوت والده الذى كان يعمل بالسكة الحديد، والذى شهد الحرب العالمية الثانية، ونجا من الموت بأعجوبة بسبب انفجار أحد الألغام. وقد حكى لابنه عن مدن هذا الساحل، وخصوصًا عن محطة قطار العلمين، ووقائع سنوات الموت والدمار فى قلب المعركة.


هذا الفصل قطعة أدبية مذهلة فى تفاصيلها، وحضور صوت الأب وحكاياته، وهذا البعد التاريخى للمدن، والحكايات الإنسانية، والانتقالات الحادّة بين الماضى وزياراتٍ معاصرة قام بها عبد المجيد، كل ذلك يجعلنا أمام نص شديد الحيوية والبراعة، ويجعل من الزمن من جديد بعدًا أساسيا من أبعاد أى رحلة.


ترك الأب زوجته وابنته فى الريف، وعاد إلى عمله فى قلب الحرب. وها هو يحكى عن القطارات التى تحمل الجرحى والقتلى، وعن ساعات القصف، وعن الأشلاء والجثث فى كل مكان، وعن مأساة الفرقة الإسكتلندية التى لم يبقَ منها رجل واحد. لم يكونوا يحملون سلاحًا، وإنما انحصر دورهم فى عزف الموسيقى لبث الحماس فى الجنود، ولكن نيران المعركة حصدتهم جميعًا.


«العلمين» - كما عاينها عبد المجيد - منطقة أُعدّت جغرافيتها للقتل، ارتوت رمالها بنحو 13 ألف قتيل وجريح من قوات الحلفاء، و25 ألف قتيل وجريح من دول المحور. فى المقابر تزاحمت شواهد الجميع: إنجليز، وهنود، وإيطاليون، ويونانيون، وألمان. بل ووجد عبد المجيد مقبرتين لجنديين من السودان، أحدهما اسمه «الصافى النعيم»، وهو اسم جميل فى زمنٍ قبيح وعبثى، لم يفرّق بين الجميع فى الموت. وكان الأكثر إيلامًا أن الجنود فى سن العشرين أو أقل، وأن أعدادًا كبيرة من سكان المستعمرات حُشروا فى هذه المحرقة رغمًا عنهم.


هذا المنظور الذى يجمع بين المكان والزمان نجده أيضًا فى رحلة إلى الإسكندرية التى عرفها عبد المجيد فى طفولته، مقارنةً بالتغييرات التى عرفتها فيما بعد. وهذه المرة يقطع السردَ حضورُ كلمات كفافيس المؤثّرة.
ابن كرموز كان شاهدًا فى طفولته على إسكندرية أخرى. حكاياته هنا تبدأ من تأسيس المدينة، وكل منطقة تبعث حيّة ونابضة، حتى تلك العروس الشهيرة التى اختفت ذات يوم فى شارع النبى دانيال عام 1972، كان عبد المجيد شاهدًا على مأساتها، بينما يسجّل أسماء السينمات المنقرضة بكل دقة، ويتحدث أيضًا عن زمن «ترييف الإسكندرية».


تُرى.. أين تذهب طيور المحيط؟
لعلها تذهب لتحكى ما رأت على الشاطئ الآخر. فما الحياة إلا حكايات بلا توقف أو وصول، مثل حكايات عبد المجيد الجميلة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات