لبننة غزة - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 12:33 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

لبننة غزة

نشر فى : الإثنين 27 أكتوبر 2025 - 8:00 م | آخر تحديث : الإثنين 27 أكتوبر 2025 - 8:00 م

عديدةٌ هى المؤشرات التى تشى بضلوع إسرائيل فى استنساخ السيناريو اللبنانى حيال قطاع غزة، وذلك عبر استغلال اتفاقات وقف إطلاق النار بقصد تأبيد الاحتلال وشرعنة استهداف قيادات وكوادر المقاومة المسلحة، فضلًا عن تكريس استراتيجية الحدود الآمنة؛ بدعم وتواطؤ من لدن إدارة ترامب.

 


فبادئ ذى بدء، يطل التأويل الإسرائيلى لنصوص الاتفاقيات برأسه؛ فلطالما ارتكز تفسير إسرائيل وتطبيقها للاتفاقيات السياسية والأمنية والاقتصادية على تقديراتها لمصالحها الاستراتيجية، فى تجاوز العزلة الإقليمية، وتحسين صورتها أمام العالم، ومواجهة التهديدات والتحديات الأمنية. وهو ما يستوجب التفنّن فى المراوغة والتنصل من تلك الاتفاقيات، ورهن الالتزام بها بحدود الإصرار الأمريكى على إلزام الإسرائيليين بتطبيقها. ومن ثم، يرى خبراء أن نتنياهو يتعاطى مع اتفاق وقف الأعمال العدائية مع لبنان فى نوفمبر الماضى، وكذلك اتفاق العاشر من أكتوبر الجارى بشأن غزة، استنادًا إلى «البند السرى» الذى يُخوله استئناف العدوان متى استشعر تهديدًا أو انتهاكًا من لدن الطرف الآخر.

 


تأسيسًا على ما ذُكر آنفًا، يتأتى الانتهاك الإسرائيلى الممنهج لاتفاقات وقف إطلاق النار؛ إذ تبيح إسرائيل لنفسها حرية التحرك العسكرى بزعم لجم انتهاكات الطرف الآخر. فبعد قرابة عام على إبرام اتفاق وقف إطلاق النار فى الجنوب اللبنانى، لا يشعر اللبنانيون بجدواه، بقدر ثقتهم فى أن التوتر لا يلبث أن يهدأ فى غزة حتى يتأجج فى لبنان. وبعد رصد أكثر من عشرة آلاف انتهاك إسرائيلى، مع تعمد تعطيل إعادة الإعمار، يخطط اليمين الإسرائيلى لإعادة احتلال الجنوب اللبنانى وإغراقه بالمستوطنات. وبينما أعلن الجيش الإسرائيلى اكتمال تمرين الفرقة 91 على الحدود اللبنانية، تلويحًا باستئناف العدوان، يراهن اللبنانيون على تفعيل لجنة «الميكانيزم» التى تقودها الولايات المتحدة لحمل إسرائيل على وقف هجماتها وتثبيت وقف إطلاق النار.
من جانبها، حرصت حركة حماس على الاستفادة من التجربة اللبنانية من خلال الإصرار على ضرورة تلقى ضمانات صارمة من قبل الوسطاء، خصوصًا الراعى الأمريكى، باحترام الاحتلال لاتفاق وقف النار. كما تتباحث الحركة معهم بشأن الخروقات الإسرائيلية، التى ناهزت ثمانين خرقًا موثقًا لاتفاق وقف إطلاق النار منذ دخوله حيّز التنفيذ فى العاشر من أكتوبر الجارى، وأسفرت عن استشهاد 97 فلسطينيًّا وإصابة 230 آخرين، بينهم نساء وأطفال. وفى إطار استعدادات الجيش لسيناريو هجمات جوية تدريجية على أهداف داخل غزة، خلف «الخط الأصفر»، وفقًا لجدية الحوادث وطبيعتها، أعادت قيادة منطقة الجنوب والاستخبارات العسكرية، بالتعاون مع جهاز «الشاباك»، تعبئة بنك الأهداف بغزة خلال الأسابيع الأخيرة.
ومثلما تغض واشنطن الطرف عن تجدد العدوان الإسرائيلى على لبنان مكتفية بالإبلاغ الإسرائيلى المسبق به، كشف موقع «أكسيوس» أنّ إسرائيل أبلغت إدارة ترامب مسبقًا بالضربات الأخيرة على رفح من خلال «مركز القيادة الأمريكى» المكلّف بالإشراف على اتفاق وقف إطلاق النار وتنسيق العمليات العسكرية فى غزة.
بموازاة ذلك، لا يتورع الاحتلال عن مباشرة عمليات التصفية لعناصر المقاومة رغم اتفاقات وقف إطلاق النار. فلقد أكدت مصادر ميدانية فلسطينية تعمّد الخروقات الإسرائيلية لوقف النار، وتصفية خمس قيادات ميدانية بارزة من عناصر كتائب القسام، الجناح العسكرى لحماس، علاوة على إصابة آخرين بجروح خطيرة. وترى الحركة أن تمسّك الاحتلال بالسيطرة الأمنية على أكثر من نصف أراضى قطاع غزة إنما يستهدف إعادة إنتاج السيناريو اللبنانى، لجهة تنفيذ عمليات اغتيال لنشطاء وقيادات ميدانيين، إلى جانب قصف منازل ومواقع حيوية، بحجة نزع سلاح المقاومة وحرمانها من إعادة بناء قدراتها العسكرية. فيما أقرّ الكنيست مشروع قانون لتطبيق السيادة على مناطق داخل الضفة الغربية، الأمر الذى اعتبرته واشنطن تهديدًا جديًّا لاتفاق وقف إطلاق النار.
على غير استحياء، رهن نتنياهو وترامب خطط إعادة الإعمار بنزع سلاح المقاومة. فمثلما تم تعليق تقديم مساعدات أو ضخ استثمارات فى الاقتصاد اللبنانى المتعثر أو إعادة إعمار الجنوب، التى يقدّر البنك الدولى كلفتها بـ11 مليار دولار، بإتمام نزع سلاح حزب الله؛ يتكرر الأمر فى غزة. حيث تعتقد أوساط استخباراتية إسرائيلية أن حماس لا تتوانى عن إعادة تأهيل قدراتها العسكرية، فيما تبقى على نصيب من أسلحتها الهجومية، يتضمن قذائف الـ«آر بى جى» ومتفجرات ثقيلة، كما لا تزال تمتلك آلاف الصواريخ متوسطة وطويلة المدى. ورغم الإضعاف الشديد لقدرات الحركة طوال العامين الماضيين، لا تفتأ الحركة تحتفظ بأكثر من نصف الأنفاق التى كانت تستخدمها سابقًا. بينما نجحت، مؤخرًا، فى اغتنام مخزون إضافى من الأسلحة، التى زودت بها إسرائيل عشائر فلسطينية موالية لها، لتقويض نفوذ حماس بالقطاع.
وبناءً عليه، أكدت التقارير الاستخباراتية اشتراط إسرائيل على واشنطن رهن الشروع فى إعادة إعمار غزة بتنفيذ مهمة نزع سلاح حماس كليًّا، وإبعادها عن الأراضى الفلسطينية. ولعل هذا ما يفسر تشديد ترامب أن جهود إعادة الإعمار لن تبصر النور إلا بعد تسليم سلاح الحركة وإبقاء القطاع منزوع السلاح. وخلال مؤتمر صحافى بمركز التنسيق الأمريكى الإسرائيلى لوقف إطلاق النار فى غزة، أكد صهره جاريد كوشنر أن تخصيص الأموال لإعادة إعمار غزة سيقتصر فقط على المناطق الخاضعة لسيطرة جيش الاحتلال، دون تلك التى تسيطر عليها حماس. ولم يتورع كوشنر عن الترويج لفكرة اختزال القضية الفلسطينية فى كونها مجرد مطالب إنسانية للعيش والعمل دون حق تقرير المصير فى إقامة دولة مستقلة ذات سيادة. بدوره، يرى المؤرخ والسفير الإسرائيلى السابق لدى واشنطن، مايكل أورين، أن استمرار حماس فى الاحتفاظ بسلاحها سيجعل أى استثمار دولى فى إعادة إعمار المناطق التى تسيطر عليها مستحيلاً؛ إذ لن تخاطر أية دولة بتوجيه أموالها لإعمار منطقة خاضعة لمنظمة مصنفة إرهابية، على حد زعمه.
فى غضون ذلك، يأبى جيش الاحتلال إلا الاحتفاظ بتمركزات عسكرية داخل المناطق التى يتعين عليه الانسحاب منها. فبموجب الاتفاق الذى قضى بإيقاف الحرب بين إسرائيل وحزب الله يوم 27 نوفمبر 2024، كان من المفترض أن يستكمل جيش الاحتلال انسحابه التام من الجنوب اللبنانى فجر 26 يناير الماضى. لكن القوات الإسرائيلية بقيت فى خمس تلال استراتيجية منتشرة على طول الخط الأزرق؛ تشرف، من جهة الشمال، على المستوطنات الإسرائيلية، وجنوب نهر الليطانى من جهة أخرى، حيث كان حزب الله يتموضع قبل انسحابه. وذلك فى تحدٍّ سافر للاتفاق كما للقرار 1701 اللذين يشددان على انسحابها الكامل من الأراضى اللبنانية.
والأدهى أن وزير الدفاع، إسرائيل كاتس، أكد بعيد إجرائه تقييمًا للموقف الاستراتيجى، بمشاركة رئيس الأركان، إيال زامير، وعدد من كبار المسئولين العسكريين، أن الجيش سيبقى فى النقاط اللبنانية الخمسة التى يحتلها إلى أجل غير مسمى، بذريعة حماية سكان شمال دولة الاحتلال. كما أمر بتعزيز تموضع القوات الإسرائيلية فى تلك النقاط الخمس، والعمل بقوة وحزم ضد أية انتهاكات لحزب الله، مع إقامة شريط عازل متقطع تتراوح مساحته بين 300 مترًا لجهة اللبونة، واثنين كيلومتر عند العزية، بما يمنح قوات الاحتلال سيطرة ميدانية ومزايا عسكرية تمكنها من مراقبة التحركات اللبنانية وقطع محاور الطرق الحيوية بين البلدات الحدودية.
أما فى قطاع غزة، الذى تهيمن قوات الاحتلال على أكثر من نصف مساحته، فترفض حكومة نتنياهو استكمال الانسحاب منه بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، قبل نزع سلاح حماس فى شطره الغربى. وذكرت «القناة 12» الإسرائيلية أن «الخط الأصفر»، الذى يحدد المنطقة التى انسحب باتجاهها جيش الاحتلال وتشكل مساحة 53% من القطاع، بدأ يتحول إلى حدود فاصلة فى قلب غزة، عبر وضع علامات وسواتر ومواقع محددة تشير إلى المنطقة التى يسيطر عليها الاحتلال ويُحظر وجود الفلسطينيين فيها. فلقد أصدر وزير الدفاع الإسرائيلى تعليماته بوضع حجارة حدود صفراء على الخط الأصفر، مخصصة لوضع علامات حدود دولية على غرار الخط الأزرق عند الحدود مع لبنان وسوريا؛ لبسط السيطرة البديلة على غزة حال انهيار الاتفاق. حيث تتحول هذه الحجارة، بمرور الوقت، إلى جدار حدودى وعائق حقيقى يقلّص مساحة القطاع لصالح زيادة مساحة النقب الغربى. كما يمهد لإقامة مستوطنات إسرائيلية داخل الجانب الذى يسيطر عليه الاحتلال من الخط الأصفر. ولعل هذا ما يفسر بقاء الوزيرين اليمينيين المتطرفين، سموتريتش وبن غفير، فى حكومة نتنياهو رغم توقيعها اتفاق وقف إطلاق النار، اللذين بذلا جهودًا مضنية بغية تجنبه وتقويضه.

التعليقات