لماذا تبقى بعض الصور راسخة بتفاصيلها وألوانها فى أعماق العقل، بينما يمحو الزمن صورًا أخرى؟ صور من سنوات الطفولة الأولى تبقى، وصورٌ أخرى ضيّعتها الأيام التى تراكمت سنواتٍ وسنوات.
• • •
فى العقل صورةٌ وصوتُ أبى يرفع جسدى لتلتقطنى أمى، بعد أن صمَّم أن أنزل معه داخل دبابة إسرائيلية فى معرض غنائم أكتوبر. صورة أخرى لطرقة منزلنا القصيرة وبلاطها الأسوانى البسيط، أدبدب عليه مقلدًا الخطوة العسكرية، بينما يرن صوتى مع صوته نغنى: «محمد أفندى رفعنا العلم، وطوَّلت راسنا ما بين الأمم».
لا أتذكّر صورًا أخرى وصفتها لى أمى عن خط بارليف. قالت إن أبى حصل على تصريح باصطحابى معهما خلال زيارة خاصة لعدد محدود من الصحفيين.
• • •
صورةٌ أخرى تبقى حيّةً بالصوت والصورة. الصورة فيها المطربة شريفة فاضل تطل على شاشة أبيض وأسود، وصوتُها يغنى ما عرفتُ لاحقًا أنه أغنية اسمها أم البطل. وفى الصورة كذلك بكاء جدتى وأمى الصامت لافتقاد خالى الطيار الشاب الذى استُشهد فى تدريبات سبقت قيام الحرب. عاد منه قصة تتردد فى الأسرة بفخر وشجن، وعلبة أسطوانية زرقاء اللون تحمل بداخلها خوذة طيران وزيا عسكريا.
• • •
منذ عام ٧٣ صار أكتوبر مرادفا زمنيا لأهم وأعظم ما نفخر به فى مواجهة النسيان أو التناسى المتعمد. فائدة الصور أنها نوافذ للتأمل وفرص للعبرة والاعتبار. نصر مصرى، كان التخطيط العلمى والأداء المنتظم الدءوب أساسًا له. كان السلاح عنوانه ومقدمته، وتغيير المعادلات والقناعات طريقًا لنهايته التفاوضية.
• • •
اختلف السياسيون حول حجم المكسب، لكن لم يختلف أحد حول مليون خريج جامعى مصرى مدرب على الجبهة فى صفوف العسكرية المصرية. اختلف المراقبون على أسلوب التفاوض وتوقيتاته وتفاصيله، ولم يختلفوا حول المنهج العلمى الذى قاد إلى لحظة إعلان كسر الجمود العسكرى فى الثانية من بعد ظهر السبت، السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣.
• • •
وما بين التذكار والتشكيك الذى تشهده جلسات اجتماعية مختلفة، تعلّمتُ بعد وقت طويل وتدريب مكثف أن أُمسك بزمام النفس، وألّا أقع فى فخ مناقشة كثير من اللامعقول أو المقبول. كانت صورى رفيقتى، رغم عواصف التغيير التى واجهتُها وأنا معها. رأينا العواصف تهب على الخريطة بأكملها، حتى وصلنا إلى ما قاله أحدهم مؤخرًا: إن الخريطة لا تعجبه، وأنّ له أن يعبث بها كما شاء وفقًا لأساطيره الخاصة.
• • •
فى أعوام سابقة كانت أهمية الصور أنها تحفظ الذاكرة، لكنها اليوم تبدو ضرورية أكثر من كل الأعوام التى مرت عليها. سنوات طويلة مما سبق رأينا أوهامًا ترتفع ثم تتلاشى. وهم السلام القادم الذى لم يأت أبدًا. وهم هذه الأيام الأخيرة التى قالوا لنا فيها بالحرف: «إن هذا السلام المنشود إنما هو الخضوعُ الكامل».
• • •
تتجدد الصور هذا العام كما لم تتجدد أبدًا. تتجدد لأن كل الأقنعة قد سقطت عن بعضها، كما قال محمود درويش ذات يوم. تتجدد الصور لأنها لم تعد وحدها معزولة فى دولاب يحفظ ما مضى، بل وصلت إلى أجيال جديدة سمعت ورأت ما كان يصل إليها وصفًا، وما نظرت إليه خلف زجاج شاشة أو فاترينة عرض متحفى فى عيد عسكرى.
• • •
أكتوبر هذا العام جاء بتهديد سمعه ورآه جيل جديد من المصريين، ظن بعض آبائهم أن الخطر زال، وأن الهدوء ساد، وأنّ الأخطار حولنا لا تخصنا. تبين لنا خلال الشهور الأخيرة أن ذلك كان وهمًا آخر، وأن الحقيقة الوحيدة الباقية هى صور أكتوبر القديم، وأن دروسه يجب ألا تغيب أبدا.