عاد إلى واجهة الأحداث اسم الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور فى غرب السودان، وسط تقارير عن معارك عنيفة بين قوات الجيش وميليشيات الدعم السريع التى زعمت سيطرتها على المدينة، التى تشكل نحو ٥٧٪ من إجمالى مساحة دارفور الكبرى، ويحدها من الشمال الغربى والغرب كل من ليبيا وتشاد، وتفتح لها طرقا مع إفريقيا الوسطى.
وعلى الرغم من عدم صدور بيان رسمى عن الجيش السودانى (حتى كتابة هذه السطور) بشأن حقيقة ما يجرى، أشارت مصادر داخل الجيش لقناة الجزيرة إلى «انسحاب تكتيكى» فى بعض المواقع بمحيط الفرقة السادسة مشاة، فيما قالت «المقاومة الشعبية»، وهى مجموعة من المتطوعين تقاتل إلى جانب الجيش، إن «الفاشر لا تزال صامدة أمام هجمات ميليشيا الدعم السريع».
وبعيدًا عن تضارب التقارير بشأن ما يحدث، فإن الفاشر تمثل لمن يسيطر عليها أهمية استراتيجية كبرى، وقد احتدم القتال للاستيلاء عليها من قبل قوات الدعم السريع التى حاصرت المدينة منذ مايو ٢٠٢٤، بما تبعه من تداعيات خطيرة على حياة مئات الألوف من الأهالى مع صعوبة وصول الغذاء والمواد الطبية إليهم، فى ظل تدهور الوضع الإنسانى أصلا، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (أوتشا).
وقدرت المنظمة الدولية للهجرة، بحسب الموقع الرسمى للأمم المتحدة، أن ما يقرب من ٧٧٠ شخصا نزحوا من الفاشر إلى منطقة «طويلة» بسبب تزايد انعدام الأمن فى الفترة بين ٢ و٤ أكتوبر الجارى. وفى الوقت نفسه، جدد المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك الدعوة لتوفير ممر آمن للفارين وتيسير وصول المساعدات الإنسانية إلى مئات الألوف من المدنيين، وهو المطلب ذاته الذى شدد عليه مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشئون الإنسانية توم فليتشر.
ظلال المعارك الدائرة فى الفاشر حاليا، وكلمات ممثلى الأمم المتحدة عن المأساة التى تطال المدنيين ممن تقطعت بهم السبل، أعادت إلى ذهنى زيارة قديمة إلى إقليم دارفور، بينما كان صدى الصراع الذى اندلع عام ٢٠٠٣ لا يزال حاضرا، ويتجسد لحما ودما فى العديد من معسكرات النزوح فى الفاشر ونيالا وغيرهما من ولايات دارفور الخمس.
فى مخيم أبو شوك للنازحين بمدينة الفاشر، ذلك المركز الاقتصادى الذى كان ــ يوما ــ عامرا بالأسواق، صعدت الشمس إلى كبد السماء (ظهر أحد أيام إبريل ٢٠٠٧) عندما اقتحمت المكان عدة سيارات دفع رباعى تقل حفنة من الصحفيين، حيث تناثرت مئات الخيام وبيوت القش هنا وهناك، بينما تقاطر نحونا العديد من الأطفال والنساء، اعتقادًا منهم أننا نمثل إحدى منظمات الإغاثة التى تأتى لتقديم يد العون لهؤلاء الجوعى البائسين.
اليوم أستحضر مشهد هؤلاء الصغار، ضحايا الصراع الذى لم يكن معظمهم يدرك أسبابه، وأنا أتأمل صور النازحين والمشردين فى أنحاء متفرقة من الفاشر وغيرها من مناطق إقليم دارفور، الذى تحول على مدى عقدين إلى بؤرة ملتهبة لا تخمد نيرانها، حارقة فى طريقها مستقبل وآمال مئات الألوف من البشر الذين صاروا وقودا لمعارك طاحنة.
خيوط الأزمة متشابكة، وأطرافها متعددة بلا شك، لكن من يدفعون فاتورة الحرب هم أولئك الأبرياء الذين كتب عليهم النزوح على أقدامهم فوق الأشواك، بحثا عن أمان يبدو أنه لا يزال بعيدا حتى اللحظة، ونحن نتابع أخبار المعارك الدائرة رحاها فى الفاشر خصوصا، وإقليم دارفور عموما.
وفى ظل صراع لا تزال نيرانه مشتعلة، يبقى إقليم دارفور، وهو بحجم دولة مترامية الأطراف، جزءا من أرض بلد عربى يواجه أياما صعبة، فى ظرف إقليمى ودولى غاية فى التعقيد، ووسط ضعف سودانى وهشاشة تغريان بالمزيد من الضغوط على الجيش السودانى، الذى تمكن فى مارس الماضى من إعادة السيطرة على زمام الأمور فى الخرطوم.
السودان ينتظر سلاما غير مراوغ، يضع حدًا لحرب تأكل الأخضر واليابس، بسلاح غير سودانى، لصالح أجندات معلنة وأخرى خفية، ندفع فى مصر ــ للأسف ــ ثمن جزء من تداعيات نواياها الخبيثة على أمننا القومى.