«٢٠٨٨٨» هو أول رقم تليفون أحفظه فى حياتى. قال لى أبى فور أن بدأ الوعى يتشكّل إن هذا هو الرقم الذى علىَّ ألّا أنساه أبدًا. إذا مررت بأى طارئ، لا بد من الاتصال فورًا، وسيقوم المجيب الآلى بتوصيلى به، أو بأحد أصدقائه. هكذا أكّد.
• • •
شىء غريب جدًا وغير معتاد، واستحقّ تعجّب كل من سمعنى أقول إن هذا هو رقم التليفون الذى أعرفه.
جرى العرف إذا لم تملك الأسرة خطًا تليفونيًا، أن يكون البديل هو الجار، الأجداد، الأقارب. لكن فى بيتنا، كانت «روزا».. هكذا كان يشير لها خارجًا أو عائدًا.
• • •
كانت بيته قبل أن يكون له بيت، وبما أن البيت كبير، وبه إخوة وأعمام وأصدقاء، فسيتم نجدتى إذا ما دعت الحاجة.
المكتبة حيث علب الألوان وورق الرسم بكل الأشكال والأنواع فى جانب المبنى، قبل أن تنتقل إلى واجهته؛ الدور الأول والثانى المطابع، وما بين الخامس والسابع كانت حياته كلها، وقدر غير بسيط من طفولتى.
• • •
فى غرفة مجاورة لمكتب الأستاذ حسن فؤاد، أحد الآباء المؤسسين، طفل يجلس على مكتب وأمامه أوراق بيضاء، علبة ألوان، وفنجان قهوة لا يثير استغراب أحد. طلبها الوالد لابنه اقتناعًا منه بأن القهوة بنسب بسيطة مفيدة للطفل.أرسم وأسمع وأراقب أسماء لا أعرف إلا أنها لأصدقاء وزملاء الأب. أرسم على الورق الأبيض لأن التشكيلى العظيم جمال كامل طلب منى لوحة من خيالى، وترك كتاب التلوين برسومه الجاهزة جانبًا. هذه اللوحة معلّقة حتى الآن على حائط فى مكتب أبى، وعليها توقيعات من ثلاثة: حسن فؤاد، جمال كامل، عبد الله الطوخى. ما زلت أخاف غضبه رغم الغياب إذا ما نُقلت اللوحات دون إذنه!
• • •
هذه غرفة الأستاذة سعاد رضا، أو «الحاجة سعاد»، وهى السيدة التى نقلت لها السيدة روز اليوسف خبراتها، وأصبح لها مكانة الأم الأسطورة كراعية للمؤسسة بكل ما فيها ومَن فيها من بشر وأصول. مكتبها هو مكتب الكبار، فيه أسمع نقاشًا مع الأستاذ فتحى غانم، أو الأستاذ صلاح حافظ. نقاشات لا يقطعها إلا أوراق تحتاج توقيع الحاجة سعاد، أو مكالمة تؤكد أن أحد موظفى أو صحفيى المؤسسة قد تلقّى الرعاية التى يحتاجها فى ظرف صعب. فى غرف أخرى صفوف من أجيال الصحافة.. هنا الأستاذة نجاح عمر كبيرة الصحافة البرلمانية فى مصر، وصاحبة الوجه الصافى زينب صادق التى يحبها الجميع وتكتب عن الحياة.
• • •
رأيت زهدى، أحد أعمدة فن الكاريكاتير المصرى والعربى، وعرفت الكاريكاتير السياسى عندما دار نقاش حول بروفة رسم للعظيم حجازى عنوانه: «فن اللكلكة فى إدارة شئون المملكة». هنا سمعت الأستاذ صالح مرسى يتحدث عن ترتيبات تصوير دموع فى عيون وقحة، وهنا تدرّب الكبير وحيد حامد قبل أن يهجر العمل الصحفى المنتظم لينضم لفئة الخالدين حتى وإن غادروا.
• • •
تحمل الذاكرة أسماء ومواقف لن تكفيها هذه المساحة. تحمل الذاكرة وجوهًا من «روزا»، ووجوهًا من «صباح الخير»، أعمام وعمّات. مع العمر، تغيّرت طبيعة زياراتى، ولم يختلف المكان. كانت روزا تمارس عادتها التاريخية: تنشط، تشاغب، تفتح آفاق النقاش العام فوق ما يحتمله صاحب القرار، فتكون فترات كمون والتقاط أنفاس، ثم تولد مجموعة جديدة تضخ الدماء الشابة فى العروق بعد أن تصوّرناها جفّت أو ماتت.
• • •
كل صاحب مكانة عظيمة ومصداقية حقيقية فى تاريخ الصحافة المصرية تقاطعت تجربته مع روزاليوسف بشكل أو آخر. لم تكن الأقدم ولا الأغنى، لكنها هى المدرسة الصحفية الأكبر والأعمق والأكثر إنسانية فى نفس الوقت.
• • •
حتى وإن عرفهم الناس مرتبطين بمؤسسات صحفية أخرى مثل الأهرام أو الهلال أو أى مؤسسة أخرى، جميعهم مرّوا من هنا: صحفيون، وأدباء، ورسامون، وشعراء، وفنانون. حتى فى أصعب سنواتها المائة، كانت دائمًا رحِمًا تتشكّل فيه المواهب قبل أن تخرج لخدمة مجتمع يتوق لصحافة تعبّر عنه.
• • •
لم أعرف روزا إلا شابة متجددة، فكيف تحتفل بمائة عام على التأسيس!؟ سألت نفسى وأنا أستقبل مكالمة رقيقة كريمة من السيدة هبة صادق لحضور مئوية روزاليوسف. ولأن ساعات البث التليفزيونى حاكمة لحركتى وحياتى على مدار عقود، كانت نظرتى الأولى ليوم الاحتفال وتاريخه، يعقبها أسف عابر لتعارضه فعلًا مع أحد أيام البرنامج.
• • •
روزا هانم، تقبّلى اعتذارى مع امتنانى لكل ما منحتِه لنا. عمرك المديد قد بلغ المائة، لكن أثرك لا يُقاس بالزمن بقدر ما يُقاس بضوئك الذى أنار العقول واتّسعت به الآفاق.