وفقا للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، هناك اليوم خمسة ملايين لاجئ سورى خارج سورية، وأكثر منهم داخل سورية. أى أن نصف السوريين مقتلعون من بيوتهم، وقرابة ربعهم مقتلعون من بلدهم. أغلب الظن أن الأرقام مقتصدة، لكنْ لا بأس.
المدهش ليس العدد الضخم وحده، فآلة القتل الأسدية – الروسية – الإيرانية قادرة، بالطائرات والكيماوى والبراميل، وبالقصف والغزو على ذلك. المدهش أن هؤلاء الملايين لم يصنعوا فى العالم «قضية سورية»، علما بأن الاقتلاع السكانى، من أرمينيا ومن فلسطين ومن سواهما، لعب دورا ملحوظا، ماديا ورمزيا، فى التأسيس لـ«قضايا» تلك الشعوب المنكوبة. وقد نشأ من القضايا ما كبر على حساب شعب القضية نفسه. المثال الفلسطينى ساطع فى هذا المجال، حيث كثيرا ما سار قتل الفلسطينيين والتشدق بقضية فلسطين يدا بيد!
ما يرفع درجة الإدهاش أن النزوح السورى ترك تأثيرات كونية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. لقد صار أحد البنود فى الحملات الانتخابية لعدد من بلدان أوروبا، كما بات يتصل بصعود اليمين الشعبوى فيها.
مع ذلك، لم تنشأ قضية سورية تحرك العالم، كى لا نقول: تهزه. أمر النزوح غلب عليه التعاطى التقنى والإجرائى، وفى أحسن الأحوال: الإنسانى. أما سياسيا وأيديولوجيا، فالنتيجة غير مشجعة.
سبب ذلك، على الأرجح، كامن فى وقوع الثورة السورية خارج الثنائيات المألوفة التى انشطر حولها عالمنا العناصر، كما استقطبت كمًّا ضخما من الأفكار والعواطف. فهى ما يصعب ربطه بمألوف الثنائية اليمينية – اليسارية، الأمر الذى يفسر توافق التيارات الأعرض فى اليمين واليسار على موقف يتراوح بين تجاهلها السينيكى ومناهضتها اللئيمة. لقد استحالت السيطرة التأويلية على «غموض» الثورة قياسا بتلك الثنائية.
كذلك، وعلى عكس المسائل الأرمنية والفلسطينية والكردية، ليست الثورة السورية ثورة قومية، ولا الموضوع القومى مطروحا فيها أصلا. إنها بين سوريين عرب وسوريين عرب، على رغم التقاطع مع المشكلة الكردية فى سورية التى، على أهميتها، لا تموه محط التركيز الأصلى.
فوق هذا، فالقرابة التقليدية بين الثورة الديموقراطية وحقوق الأقليات لا تصح فى الثورة السورية. هنا تتبدى المشكلة من طبيعة مختلفة تماما: الأكثرية هى نفسها الأقلية السياسية التى يقع عليها معظم القمع والاضطهاد.
والراهن أن الدور الذى لعبته الحركات الإسلامية المتطرفة فى السنوات الثلاث الماضية زاد الصعوبات جميعا. لقد صارت الثورة السورية أقل قابلية للاندراج فى أى من التأويلات والثنائيات المألوفة.
صحيح أن عددا من المثقفين السوريين بذلوا جهودا جدية ووجيهة لربط ما يجرى فى بلادهم بانقسامات ومعانٍ أعرض. لكن تلك الجهود لم تجذب الاهتمام الذى تجذبه صورة لمسلحات كرديات يقاتلن «داعش»: هنا، يسهل إدراج الموضوع، وغالبا بخفة دعائية، فى النضال لتحرر المرأة، وفى المعركة ضد الظلامية، وفى حق تقرير المصير. إنه قابل للإدراج فى ما هو معروف ومألوف.
السبب الأهم الذى جعل الثورة السورية «غير مفهومة»، وحال دون ولادة «قضية سورية»، هو أنها تشبه الماضى الأوروبى السحيق. تشبه ثورة سبارتاكوس فى روما. تشبه مطالبة العبيد بالكرامة والإنسانية. وهذا ما بات ماضيا أركيولوجيا فى الغرب الذى يصنع القضايا كما يصنع الصور. والمسألة لم تصبح هكذا إلا لأن نظام الأسد بات، فى العالم، ماضيا أركيولوجيا.
تتضاعف صعوبة التعرف إلى ثورة السوريين بصفتها هذه لسبب آخر: أن الغرب اليوم ليس مطمئنا تماما إلى مستقبله. صحيح أنه غير مهدد بالرجوع إلى ما يشبه العبودية الأسدية، لكنه أيضا غير واثق من أنه يمتلك حاضره. شعور كهذا يُضعف القدرة على التفكير والفهم، لكنه أيضا يجفف القدرة على التعاطف.
الحياة – لندن
حازم صاغية