يحل عندى، بعد أيام قليلة، يوم يختلف عن بقية أيام السنة. كنت قبل سنين عديدة أنسى، وفى الواقع، أتناسى قرب حلوله. رأيت فيه بدعة أو افتعال لمناسبة يتجمع فيها الأقارب ويتبادلون هم والأصدقاء مع صاحب اليوم المشهود المجاملات، بعضها عينى وأكثرها بالكلمات وأحيانا بالأحضان والقبلات. استمر التجاهل حتى وصلت فى العمر إلى زمن أصبح عنده لهذا اليوم المختلف عن بقية الأيام معانٍ أكثر ومحتوى تأخر حضوره أو التعرف عليه.
كان أهلى فى زمن عمرى المبكر حريصين على الاحتفال بهذا اليوم ولكن مصحوبا بالتعتيم. ففى هذا اليوم يحتفل الناس عادة بوصول المحتفى به إلى مستوى طيب من العمر ومن الحال. أهلى اختلفوا عن عامة الناس. فالابن، وهو المحتفى به، أتى إلى عالمهم فى شكل صدفة غير متوقعة. أنجبت أمى بعد أختى وأخى الأكبر عددا لم يعش منه أحد، وحملت فى عدد آخر وفقدته فى مرحلة التكون. ثم جئت ولكن عشت. وعلى امتداد مراحل طفولتى ومراهقتى وشبابى حتى وقد صرت رب عائلة، وفى غمرة الإحساس القوى بمن فقدوا، لم يتخل عنهم الإحساس بتوقع أن يكون مصيرى من مصير أشقاء عديدين سبقونى إلى الحياة وتخلى القدر عنهم بعد حين.
●●●
جرت عادة أمى على أن نقضى هذا اليوم بين أهلها، أمها وشقيقاتها الثلاثة وجيش من بناتهن. ننزل من بيتنا فى شارع سامى تصحبنا شقيقتى التى تصغرنى بست سنوات ونمشى فى اتجاه محطة الترام فى شارع خيرت. أسير بجانبهما فخورا بما ارتديت من ملابس جديدة وقدماى فى حذاء يلمع جلده وساقاى فى بنطلون حتى الركبة وعلى فخذى بقايا بودرة طبية حماية لهما وتخفيفا لآثار احتكاكهما بسبب سمنتهما. نمشى وسط ترحيب سيدات الحى إن تصادف وجودهن فى الطريق خاصة وأن لأمى مكانة واحتراما لديهن ولدى البائعين الجوالين وشباب الحى المتجمعين دائما على نواصى الشوارع عند تقاطعها مع شارعنا. أذكرها على طول الطريق وداخل الترام وكلما سمعت إطراء لى ولشقيقتى أو تهنئة على حسن تنشئتنا وأناقتنا، تتمتم بآيات تصد بها حسد الحاسدين.
●●●
بمناسبة شباب الحى تذكرت الآن أننا كنا ونحن أطفال نختلط، وإن نادرا، بأطفال يسكنون بعض حوارى وأزقة متفرعة من شارعى مجلس النواب وجامع الإسماعيلى وكلاهما من الشوارع الرئيسة فى حى الدواوين. أذكر أن عددا منهم كانوا يمشون وراء رجل كبير فى السن يستند فى المشى على عصا، وهم يهتفون فى سخرية «يا راجل يا عجوز مناخيرك أد الكوز». كثيرا ما استدار الرجل الكهل والتقط أحجارا صغيرة يلقيها فى اتجاه هؤلاء الأشقياء.
أظن أننى عشت فى قلق خشية أن يكبر أبى إلى حد يجعله يمشى بظهر منحنٍ وفى يده عصا يهش بها على أطفال ناقصى التربية والدين والخلق. المثير أن والدى ومعظم أقرانه فى الحى الذى نشأت فيه كانوا يتقاعدون قبل أن يصلوا إلى الستين، السن القانونية للتقاعد.
عشت بعدهم أفكر فيما قد يحدث لى فى حال تجاوزت الستين من عمرى. هل انتهى إلى شكل لا ينتسب لكل أو لبعض سمات شبابى ومنتصف عمرى؟. الغريب أن بعض ما فكرت فيه صارحنى به أصدقاء وزملاء ممن عملوا معى فى روما. قالوا إن بعض سلوكياتى وتصرفاتى كانت أقرب إلى سلوكيات وتصرفات العجائز. أضف إليها بعض سمات الاكتئاب والنظرة السوداء إلى الدنيا وإلى مستقبل بلدنا فتصير صورتى بالفعل عند الناس نموذجا لشاب عجوز، فما بالك بشخص بدأ يفقد فى سن مبكرة أكثر شعر رأسه وأقبل مرحبا وما يزال فى منتصف العشرينيات على إجراء عملية جراحية لإزالة قرحة تكونت فى الاثنى عشر بتأثير اجتماع الوهم مع الاكتئاب. فتحوا وبحثوا ولم تكن هناك قرحة أو حتى ما شابه.
●●●
تغير إيقاع الزمن، وتغيرت الطموحات والأحلام، وتغيرت وتيرة الحياة. تغير المستحيل حتى صار فى كثير من الحالات ممكنا. أصبح التغيير وليس الاستقرار الترياق للأمراض الاجتماعية المستعصية. تغيرت أنا نفسى. أنهيت الاكتئاب مستخدما كل ما توفر لى فى ذلك الوقت من أسلحة وعلم وعشق للحياة. اكتشفت ما بداخلى من رغبة فى الفرح والحب وإثراء العقل. أطلقت العنان لإمكانات محبوسة وفرضت القيود على نزعة اتخاذ قرارات غير محسوبة.
●●●
أمس استقبلت أربع صديقات فى زيارة رمضانية. الصديقات الأربع من خلفيات غير متطابقة وتجارب حياتية متباينة ولكل منهن منهاج تعامل مختلف. تربط بين الأربعة وشائج صداقة وعلاقات طيبة، والأربعة يجمعهن أواسط العمر. على غير عادتى تجنبت توجيه النقاش أو إدارته. تركت الحديث يتدفق فى كل الاتجاهات، بعضها عام وأكثرها خاص بهن وبكل واحدة على حدة. لم يتأثر الحوار بوجود رجل يستمع وهو فى الغالب مستمتع.
جئن، دون أن يفصحن، تحية لصديق تجاوز الحدود المتعارف عليها فى مجتمعنا لكبر السن. سمعن منى مرارا وقرأن عبارة أننى أعيش فى هذه السن أحلى أيام عمرى. أعرف أننى بهذه العبارة أثرت فضول الكثيرين والكثيرات. جئن للزيارة وهن الواثقات من أننى لست بالكهولة التى ينبئ بها عمرى بل إنسان عرف كيف يتآلف مع الزمن. عرف كيف يتجدد ويتغير معه. عرف كيف يوازن بين القدر والزمن.
●●●
قلتها مرارا عن قناعة وصدق، قلتها فى البداية همسا وانتهيت إلى أن أكتبها جهارا، أنا، وأنا فى هذا العمر، غير نادم على خطأ ارتكبت واعتذرت عنه أو فاتنى الاعتذار، غير نادم على حد تجاوزت فتضررت وتضرر غيرى. أنا غير نادم على عهد نسيت فنقضت، ولا نادم على غبن وقع ولم أرفعه فى وقته ولا عن آلام تسببت فيها لعدم نضج أو لجهل أو لسوء فهم. أنا غير نادم عن قصور فى الأداء لنقص فى الطموح أو لانشغال فى تفاهات أو استسلاما لغوايات.
أقول سأعيش أيامى القادمة دون أن أحمل على ظهرى أثقالا من الندم أو تأنيب الضمير أو جلد الذات. فالأيام لمن هم فى عمرى أغلى بكثير من كل ما عشت من أيام. هى ثروتى ولن أبددها فى ندم أو فى غضب وحزن.