سفر أيوب واحد من أسفار العهد القديم الذى يقدسه اليهود والمسيحيون ويؤمن ببعض ما جاء فيه المسلمون أيضا، على نحو ما يحتفظ القرآن -بشكل موجز ــ بالعبرة من قصة أيوب فى سورة «الأنبياء» وسورة «ص».
لويس عوض، أشهر من نار على علم: مفكر مصرى ما تزال كتبه محل اهتمام ونعيد مراجعتها فى أعمار مختلفة.
أما خضرة محمد خضر فمطربة فن شعبى، يكاد ينساها تماما الجيل الحالى. ولها موال وأغنية شهيرة بعنوان «ناعسة وأيوب». وأيوب هنا هو أيوب المصرى فى التراث الشعبى، وناعسة هى زوجته المخلصة الوفية.
ما الذى يجمع هذه المتنافرات الثلاثة؟
سفر أيوب
ينتمى هذا السفر إلى ما يسمى الأسفار الشعرية أو الأدبية. ويذهب المؤرخون إلى أنه كتب فيما بين القرنين 7 و 3 ق.م.
ورغم أنه لا يوجد أى دليل أثرى أو تاريخى على هذه القصة إلا أن المصادر اليهودية والمسيحية تضع مسرح الأحداث فى شرق سيناء وجنوب فلسطين (النقب) وشرق الأردن. فى بلاد يسمونها «عوص» UZ التى كان يعيش فيها الرجل الصالح أيوب.
كان أيوب رجلا غنيا عنده من البنين والبنات، وكان يحمد الرب ويصلى له. قال الشيطان للرب إن أيوب يعبدك لأن الخير عنده كثير ولا فضل له فى العبادة، ولو فقد ذلك النعيم لانصرف عنك وكفر بك.
يعطى الرب للشيطان فرصة اختبار أيوب، ويأخذ كل ما عنده من عناصر الثراء والخير، لكن أيوب مع ذلك يصبر ويحتسب فلا يفقد إيمانه بالرب؛ ثم يشتد الاختبار فيصاب فى عافيته فيقع فريسة لأمراض مهلكة للبدن.
هنا تظهر زوجة أيوب، تبدى اعتراضها على قضاء الرب وتتمنى موت زوجها ليرتاح من الألم. يقول لها أيوب إنها امرأة جاهلة، ويبقى صابرا لا يخطئ بكلمة فى حق الرب.
لكن مع اشتداد الألم يتمنى أيوب الموت، بل يتمنى لو كان مات بمجرد هبوطه من رحم أمه ولم يشهد هذا العالم وتلك الدنيا. ويأخذ أيوب فى عتاب الرب سائلا إياه لماذا يصاب بكل هذه الآلام والأمراض؟
فى ديالوج بين أيوب وثلاثة من أصحابه نقرأ فى السفر (من الأصحاح 4 إلى الأصحاح 19) شكواه من المرض واعتراضه على ما ألم به، حوارات فلسفية فى الصحة والسقم، ومعنى الحياة، إلى أن يشكو أيوب الرب فيقول عنه:
«أزال عنى كرامتى ونزع تاج رأسى (*) هدمنى من كل جهة فذهبتُ وقلعَ مثل شجرة رجائى (*) وأضرم على غضبه وحسبنى كأعدائه».
ونتيجة لمرضه الميئوس انصرف كل الناس عن أيوب: الأشقاء، المعارف، الأقارب، أهل بيته، بل إن زوجته كرهت رائحته وهجرته، وانصرف عنه بنوه.
تمضى بقية أصحاحات سفر أيوب (من 20 إلى 30) فى بيان الموعظة من المرض والصبر والابتلاء والفتنة. ثم لا أمل بعد كل هذه الفتن سوى التسليم بالأمر ومناجاة الرب بالرحمة، يعود أيوب إلى ربه ويسلم بالأمر.
تظهر لنا هذه العودة فى القرآن فى أشهر صفة لأيوب، إذ يمدح القرآن أيوب بقوله: نعم العبد إنه «أواب» أى رجع إلى الله بعد أن كاد يفقد إيمانه.
فى الأصحاح 29 نرى جانبا مشابها لصفة «أواب». إذا يحدثنا السفر أن أيوب بعد أن أسلم واستسلم أخذ يرجع إلى ما كان يفعله من خير وقت قوته وعافيته، فيستدعى ويتذكر كيف استخدم ما كان عنده من مال وقوة ونفوذ فى مساعدة الفقير والمرأة والمحتاج والمسكين والمستغيث واليتيم ومن لا معين له.
فى مرضه يعود أيوب بالذاكرة إلى الخير الذى فعله فى مجده حين فتح خيمته للغريب عابر السبيل، كان أيوب عينا للأعمى وقدما للأعرج، أبا للفقراء وكاسر أسنان الظالمين. يحدث أيوب نفسه فى فراش المرض المميت:
لم أكن يوما عبدا للذهب أو الإبريز.
يصل أيوب بعد مرحلة التذكر واستدعاء الخير إلى الشعور بالرضا عن نفسه، فلم يعد يؤلمه المرض، لقد تيقن أن الرب لا يمكن أن يكون غاضبا عليه، لقد فعل من الخير الكثير الذى يجعله مستحقا لرضاه عن نفسه.
عند هذه المرحلة نتنقل بين 10 أصحاحات أخرى فى السفر، لا نجد تغييرا فى القصة والدراما بقدر ما نجد أدبا وبلاغة حتى نصل إلى أن يمن الرب على أيوب بالشفاء.
ليس هناك زمان للقصة والسفر، وإن كانت بعض التفسيرات المسيحية ترى أن الذى روى القصة لبنى إسرائيل هو موسى النبى، خلال الفترة التى عاش فيها فى مصر قبيل خروجه وقومه منها. ومن هنا يمكن فهم سبب تسمية أيوب بالمصرى فى التراث الشعبى، الذى استمر قرونا حتى وصل إلى المغنية الشعبية «خضرة محمد خضر».
خضرة محمد خضر
تمكن الكاتب الملحن زكريا الحجاوى (1915 ــ 1975) من جمع بعض من التراث الشعبى علاوة على اكتشاف الأصوات الأصيلة من البيئة، أعطى جانبًا من قصة شعبية اسمها «ناعسة وأيوب» لمغنية ذات صوت مميز اسمها خضرة محمد خضر.
ومثلما قام عبد الرحمن الأبنودى بجمع السيرة الهلالية، جمع زكريا الحجاوى موال ناعسة وأيوب وأعاد تنظيمه وتلحينه لينطلق به صوت خضرة محمد خضر.
الفارق بين القصة التوراتية وقصة الفن الشعبى أن المرأة هنا ــ زوجة أيوب ــ هى بطل القصة، لقد رفضت ناعسة أن تترك زوجها ووقفت بجانبه فى المرض وطافت به كى يبقى على قيد الحياة.
ويبدو أن مسألة الهوية المصرية التى شاغلت المفكر لويس عوض فى كثير من أعماله قد جذبته أيضا إلى البحث عن أصول «ناعسة وأيوب» فى الأساطير المصرية القديمة انطلاقا من فرضية أن موسى النبى عرف القصة أولا فى مصر قبل أن ينقلها شفاهة لبنى إسرائيل.
لويس عوض
فى عام 1973 طلب الكاتب الفرنسى جان لاكوتير من لويس عوض المشاركة فى كتاب عن الأدب المصرى ليصدر فى باريس بالفرنسية.
حمل لويس عوض جهاز تسجيل وذهب إلى الفيوم عند مجموعة من المنشدين فسجل منهم موال «ناعسة وأيوب» وترجمه إلى الفرنسية فى الكتاب الذى سيصدر فى باريس.
ذهب لويس عوض فى تحليله لقصة ناعسة وأيوب أنها تمثل حلقة من حلقات الأسطورة المصرية «إيزيس وأوزیریس».
إيزيس المصرية عند لويس عوض هى الجدة الكبرى لناعسة، وأوزيريس هو أيوب.
يتوسع لويس عوض فى تحليله فيرى اسم أيوب Job هو اقتباس من المصرية القديمة للإله «جب» Gob إله الأرض الذى كان اسمه ووظيفته يحملان مدلولات إخصابية ذكرية صريحة.
وعند لويس عوض فإن محنة أيوب المصرى ليست سوى آلام أوزيريس إله الأرض القضيبى الذى أخصب «نوت Nut» ربة السماء.
فى القصة التوراتية يكون أيوب هو مركز الحكاية، بينما فى الأسطورة المصرية القديمة تتجلى إيزيس فى مركز الملحمة والبطولة، وهو ما وصل للسيرة الشعبية فى العصر العربى فى حكاية ناعسة وأيوب، ولعل هذا ما يفسر لماذا تعرف القصة فى النموذج المصرى باسم «ناعسة وأيوب» وليس «أيوب وناعسة».
كتبت هذه السطور قبل عام ونصف، وحين شاركتها هنا نوهت للأصدقاء بقولى:
هذا مقال لا يتجاوز مستوى محو الأمية والمصادر الثلاثة للموضوع متوافرة على الإنترنت.
- سفر أيوب بلغات مختلفة.
- أغنية خضرة محمد خضر على يوتيوب.
- كتاب لويس عوض «دراسات أدبية» الصادر فى عام 1989.