سؤال متكرر أتحفظ لدى الشروع فى الإجابة عليه من استنتاج السائل حالة مزاجية شعبية معينة تجاه إجراءات الإصلاح الاقتصادى الذى تعلنه الحكومة. السؤال عادة ما يدور حول هذا المضمون: لماذا لا يشعر المواطن العادى بثمار الإصلاح الاقتصادى؟! ولأننى اعتدت التفكير العلمى المؤسس قدر المستطاع على دراسات وأبحاث أجدنى غير مستسيغ مصادرة صاحب السؤال على المطلوب، وقفزه إلى استنتاجات لا تستند إلى استطلاعات رأى أو أى منهجية علمية معتبرة، فأجيب على سؤاله بعدد من الأسئلة.
فمثلا كيف نعرف المواطن العادى؟ وهل هذا التصنيف يتعرض فى ضمير السائل إلى مستويات الدخل والتعليم والحالة الاجتماعية والفئة العمرية.. إلى غير ذلك من محددات؟ وكيف استقر فى يقين سائلى أن هذا المواطن «العادى» لا يشعر بثمار الإصلاح؟ أغلب الظن أنه يعتمد على مشاهدات عشوائية، وعلى مداخلات متفرقة فى وسائل التواصل الاجتماعى، بل وربما اعتمد فقط على تقدير أثر الإجراءات الاقتصادية الأخيرة منذ قرار تحرير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار الأمريكى فى نوفمبر 2016 وحتى تاريخه، على دخله الشخصى ودخول محيطيه من الأهل والأصدقاء.. وعلى الرغم من عدم فساد تلك المداخل بشكل تام، ولكنها تظل غير كافية لتأسيس مدرسة جديدة فى التحليل الاقتصادى، تقوم على وضع فرضيات خاصة موضع المسلمات! على أى حال تلك الأسئلة التى أطرحها تظل محل اهتمام العديد من مراكز استطلاع الرأى حول العالم، ومن بينها مركز بحثى اسمه PEW research center يرصد الحالة النفسية والحالة المزاجية للمواطنين حول العالم تجاه حال ومستقبل الاقتصاد فى بلادهم.
***
فى تقريره الصادر فى يونيو 2017 أصدر المركز المذكور تحليله لاستطلاع موسع للرأى اشتمل على آراء عينة ممثلة للمواطنين فى 32 دولة حول العالم تجاه الاقتصاد فى دولهم، بعد مرور ما يقرب من عقد كامل على أكبر أزمة مالية عالمية منذ الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن الماضى.
فى 11 دولة من بين 18 دولة مبحوثة فى العامين 2016 و 2017 كانت رؤية المواطنين أكثر إيجابية تجاه الاقتصاد بالمقارنة بالعام السابق. الهولنديون والألمان والسويديون والهنود يرون اقتصادهم على أحسن ما يكون.. الرأى العام العالمى أكثر تفاؤلا تجاه الاقتصاد، لكن آراء المواطنين فى عدد من الدول مازالت سلبية تجاهه. بصفة عامة ما يقرب من 46% من المبحوثين عام 2017 يرون أن الوضع الاقتصادى الحالى لبلادهم يسير بشكل جيد.
أشارت نتائج المسوح فى خمسة اقتصادات أوروبية كبرى، بالإضافة إلى اليابان والولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تقدير المواطن للاقتصاد الوطنى أكثر إيجابية مما كان عليه فى عام 2007 أى فى العام السابق مباشرة لانفجار الأزمة العالمية المعروفة إعلاميا بأزمة الرهن العقارى الأمريكية. 58% من الأمريكيين يؤمنون بسلامة الوضع الاقتصادى لبلادهم. فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا والمملكة المتحدة 51% من المبحوثين يمنحون اقتصادهم تقديرا موجبا.. يأتى هذا صبيحة تحقيق خمس دول أعضاء فى الاتحاد الأوروبى متوسط نمو يبلغ 1.7% ومعدل بطالة يقترب من 7.4% فى عام 2016.
فى اليابان تبلغ نسبة المتفائلين تجاه الوضع الاقتصادى 41% فى استطلاع الرأى الأخير، الغريب أن معدل النمو الاقتصادى فى اليابان عام 2016 لم يزد على 0.8% مع معدل بطالة بلغ 3.1%، بينما بلغ معدل النمو فى عام 2012 نحو 1.7% ومع ذلك فإن 7% فقط من المواطنين اعتقدوا أن اقتصادهم يسير بشكل جيد! ربما لكون معدلات البطالة حينها بلغت 4.4% وهو ما يؤكد أن معدلات البطالة عادة ما تكون من المؤشرات الحاكمة لتشكيل رأى المواطنين تجاه الاقتصاد وأى عملية إصلاح اقتصادية.
بلغت نسبة الراضين عن الوضع الاقتصادى لبلادهم فى استطلاع الرأى الذى أجرى عام 2017 على 17 دولة متقدمة 51% فى حين رأى 45% أن الوضع الاقتصادى سيئ. الحالة المزاجية الإيجابية تجاه الاقتصاد فى دول أوروبا الشمالية طغت على حالة التشاؤم التى سيطرت على سكان جنوب أوروبا وكوريا الجنوبية.
أما بالنسبة لمجموعتى الدول الناشئة والنامية فقد أثر التباطؤ فى معدلات النمو خلال السنوات الأخيرة على الحالة المزاجية للمواطنين، وعلى آرائهم تجاه الاقتصاد خاصة فى دول مهمة بقارتى إفريقيا وأمريكا اللاتينية. لم تكن مصر ضمن الدول المبحوثة لكن نسبة 45% فقط من مواطنى 15 دولة ناشئة ونامية يعتقدون أن الأوضاع الاقتصادية لبلادهم جيدة ونحو 54% يرونها سيئة. تجدر الإشارة فى هذا السياق إلى أن الآراء شديدة الإيجابية لكل من مواطنى الهند والفلبين قد تم تحييدها بفعل الآراء شديدة السلبية لمواطنى فنزويلا والبرازيل.
***
من المثير للانتباه أيضا أن الدول المتقدمة شديدة التشاؤم تجاه مستقبل الأجيال القادمة، بينما الدول الناشئة والنامية التى تعتبر أكثر تشاؤما تجاه الوضع الاقتصادى الراهن ترى مستقبلا مشرقا للأجيال القادمة! 56% من مواطنى دول المجموعتين الأخيرتين يؤمنون بأن أطفالهم سوف يعيشون فى ظروف اقتصادية أفضل، وربما كان ذلك مبررا لارتفاع معدلات النمو السكانى فى تلك الدول بالمقارنة بدول العالم الأول. فى مقدمة أولئك المتفائلين بمستقبل أطفالهم يأتى الشعب الهندى بنسبة 76% ثم الشعب النيجيرى بنسبة 72% وسكان تشيلى بنسبة 69%. فى الاقتصادات المتقدمة فقط 34% من المبحوثين يرون مستقبلا اقتصاديا جيدا لأطفالهم وهذا الاتجاه يسود بشكل كبير فى توقعات شعوب اليونان واليابان وفرنسا وأستراليا وكندا وإسبانيا والمملكة المتحدة والتى يعتقد 7 من بين كل 10 أشخاص يرون أطفال اليوم فى مأزق اقتصادى حقيقى فى المستقبل.. الأمر الذى ربما أفرزته حدة التنافسية فى تلك الدول، وصعوبة الحصول على فرص عمل إلا عبر تحقيق مزايا تنافسية غاية فى التعقيد.
اشتمل التقرير على آراء مواطنين من دولتين تنتميان إلى مجموعة دول الشرق الأوسط وهما تركيا وإسرائيل. 65% من الشعب التركى يرى صورة إيجابية للاقتصاد فى الوضع الراهن، ونحو 62% من الإسرائيليين يشاطرونهم الرأى.. هناك تحسن فى آراء مواطنى البلدين منذ عام 2015 بنحو 18 نقطة فى تركيا و13 نقطة فى إسرائيل. إفريقيا كان لها رأى آخر، فما يزيد على نصف سكان أربع دول إفريقية من أصل خمس دول مبحوثة يرون الوضع الاقتصادى سيئا، فقط الشعب السنغالى يراه جيدا بنسبة 76% مقارنة بنسبة 45% فى جنوب إفريقيا و 43% فى كينيا و41% فى نيجيريا. الفئات العمرية كان لها تأثير أيضا فى اتجاهات استطلاعات الرأى بخصوص الوضع الاقتصادى. فمثلا مواطنو جنوب إفريقيا البالغون 50 عاما فأكثر لديهم نظرة سلبية، ونحو 56% من شباب روسيا البالغين لديهم نظرة إيجابية تجاه اقتصاد بلادهم.
فى تصنيف مجموعات الدول الـ 32 بالتقرير إلى: متقدمة، ناشئة، نامية تم الاعتماد على عدد من المصادر والمتغيرات التى اهتدى خلالها معدو التقرير بتصنيفات الدخل للبنك الدولى وعدد من المنظمات الدولية الأخرى مثل صندوق النقد الدولى والتى تصنف مجموعات الدول وفقا لنصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى، وإجمالى حجم الاقتصاد مقاسا بالناتج الإجمالى، ومتوسط معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى بين عامى 2010 و2015.
***
التقرير متاح بإصدارات دورية متعددة على شبكة الإنترنت، ويعطى معلومات مهمة عن الحالة المزاجية لمواطنى عدد من الدول الممثلة لمناطق إقليمية مختلفة، تجاه اقتصاد بلادهم وفقا لظروفه الحالية والمستقبلية، وهى لمحة لا تقل أهمية فى رأيى عن الجدارة الائتمانية التى تصدر عن مؤسسات التصنيف الائتمانى المتخصصة، نظرا لكونها تعكس بشكل مباشر أوضاع الرأى العام تجاه الاقتصاد الكلى، وتعكس بشكل غير مباشر مدى استعداد المواطنين فى تلك الدول للمشاركة فى عملية التنمية، وتحمل أعباء الإجراءات الاقتصادية، فضلا عن بلورة الرؤية الشعبية لمستقبل البلاد... وما لكل ذلك من تبعات غاية فى الدقة والحساسية يدركها بشكل كبير الخبراء المعنيون بمسائل الأمن القومى وأولئك الباحثون فى الأوضاع الديموغرافية للدول.
الخلاصة، أننا فى مصر بحاجة إلى مثل تلك الاستطلاعات التى تجرى بمعزل عن أى توجه سياسى أو انحياز فئوى. وأن نتائج تلك الاستطلاعات لا تضع أساسا علميا لأسئلة المجتمع الصحفى التى تشتمل على تقدير للرأى العام فحسب، ولكنها أيضا بمثابة رصد ضرورى لدرجة حرارة الشارع تجاه مختلف القرارات والإجراءات وفى مقدمتها ما يتصل بالاقتصاد وأمور المعايش.