العلاقة بين الدولة والثورة معضلة ضاقت بها كل الثورات. الثورة هى إرادة تغيير شاملة، وهى رفض لكثير من مؤسسات الدولة التى خرجت عليها وللكثير من ممارساتها، وجهاز الدولة لا يحب التغيير، ولكن الثوار لا يستطيعون من ناحية أخرى الاستغناء عن جهاز الدولة. قد يطيحون بعدد من أبرز قادته، ولكنهم لا يجدون بديلا فى الأجلين القصير وربما المتوسط، إلا بالتعويل على جهاز الدولة القديم لتحقيق مشروعاتهم، بما فى ذلك التغيير الثورى الذى يريدون إدخاله فى المجتمع.
هذه معضلة عرفتها كل الثورات. عرفتها الثورتان الروسية والصينية، وشكا جمال عبدالناصر بعد ثلاث عشرة سنة من ثورة يوليو 1952 من أن العقبة الأساسية أمام تنفيذ الإصلاح الزراعى فى الريف المصرى هى التحالف الدائم بين كبار ملاك الأراضى والموظفين المحليين، وتعجب من أن الثورة نجحت فى إدارة قناة السويس وكانت تبنى السد العالى، ومع ذلك عجزت عن إدارة مستشفى قصر العينى.
●●●
ولم تنج الموجة الأولى للثورة المصرية فى يناير 2011 من هذا التناقض، بل كان وضعها أصعب فى هذا السياق، ففى كل الأمثلة السابقة وصل الثوار إلى قمة جهاز الدولة، ولم يكن ذلك هو حال ثوار يناير الذين لم يتطلعوا لممارسة السلطة، وإنما تركوها لغيرهم يديرها، واكتفوا فى أفضل الأحوال باختيار رئيس للوزراء خاب أملهم فيه فيما بعد، ومالوا إلى تنظيم الاحتجاجات عندما وجدوا أن القائمين على إدارة شئون الدولة، والذين مهدوا لهم أن يصبحوا السادة الجدد فى البلاد، وأعنى بذلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة، يسلكون على عكس ما كانوا يتوقعون منهم. وولذلك، فسرعان ما توارى شعار يناير وفبراير أن «الشعب والجيش إيد واحدة» ليحل محله بعد أسابيع من سقوط حسنى مبارك، الشعار النقيض «يسقط يسقط حكم العسكر»، وأدت التطورات اللاحقة ومع انتخاب محمد مرسى إلى فقدان ثوار يناير أى فرصة للتأثير فى مجرى الأحداث، فاعتزل بعضهم أى عمل سياسى، وقنع آخرون بأدوار هامشية من خلال الإعلام أو بالنشاط فى منظمات وأحزاب سياسية لا تملك سوى الصياح غضبا معظم الوقت.
●●●
هل ستكون الموجة الثانية لثورة يناير فى يونيو 2013 أكثر حظا من الموجة الأولى؟. لقد تصدر الموجة الثانية حركة تمرد وأيدها معظم رموز ثورة يناير، ومع أن الوقت ما زال مبكرا للإجابة عن هذا السؤال، إلا أن هناك من المقدمات ما يوحى بأن المعضلة التى ضاق بها ثوار يناير سوف يعانى منها ثوار يونيو ومن يساندهم،ولأسباب عديدة، منها أن العلاقة التى تربطهم بجهاز الدولة هى نفس العلاقة التى عرفها سابقوهم. فهم أيضا لم يقترحوا أن يزاولوا السلطة بأنفسهم، واكتفوا باقتراح بعض الأسماء لتولى مناصب عليا فى الحكومة بدءا من نائب الرئيس إلى رئيس الوزراء والوزراء، وتولى بعض من رشحوهم هذه المناصب بالفعل، وإن أخفق اقتراحهم بتولى الدكتور البرادعى منصب رئيس الوزراء، ولعلهم سعدوا أن ذلك لم يتحقق بعد انسحاب البرادعى من أول أزمة جادة تواجهها حكومة يونيو، كما اشيع عنهم أنهم اقترحوا خارطة الطريق التى يفترض أنها تحدد خطوات الخروج من المرحلة الإنتقالية. ومع ذلك فهناك دلائل على أن بذور التوتر أخذت تنمو فى علاقتهم ببعض أجهزة الدولة، وخصوصا مؤسسات الأمن والعدالة والإعلام، ولو لم تتنبه هذه المؤسسات إلى هذه الدلائل، فالأمور مرشحة لأن تنتهى بفجوة واسعة بين شباب الثورة بموجتيها وهذه المؤسسات، وهو ما يتمنى كاتب هذه السطور أن يجرى تجنبه، حتى تكون الموجة الثانية لثورة يناير هى موجتها الأخيرة.
●●●
على عكس الحال فى ثورة يناير، بدأت الموجة الثانية باستعادة الثقة بين ثوار يونيو والمؤسسة الأمنية ممثلة أساسا برجال الشرطة. وتعددت مظاهر التآخى والترحيب بالشرطة فى دورها الجديد حامية للشعب وليست عدوا له. وتردد فى مظاهرات الثوار فى 30 يونيو و26 يوليو الشعار الجديد «الشرطة والشعب إيد واحدة»، ولم يكن ذلك مستغربا، فقد وقف جهاز الشرطة ضد الرئيس مرسى، كما اكتسب جنود الشرطة وضباطها تعاطفا واسعا وهم يتعرضون لهجوم وحشى فى سيناء على يد جماعات مسلحة مساندة للرئيس السابق، وتلقت أقسام الشرطة هجمات فاقت ما تعرضت له إبان ثورة يناير، فقد تجاوز أنصاره مجرد الاعتداء على هذه الأقسام ولكن وصل الأمر إلى سحل قيادات شرطية فى كرداسة وأسوان، كما أعدموا أكثر من عشرين من جنود الشرطة فى مذبحة وحشية فى سيناء. ومع ذلك يشعر كثير من الشباب بغصة فى الحلق أن أسلوب فض اعتصام أنصار مرسى فى رابعة العدوية خصوصا، وهو ما ساندوه ودعوا إليه، لم يكن الأسلوب المتدرج الذى وعد به وزير الداخلية، وأسفر أسلوب استخدام القوة فى فض هذا الاعتصام عن قتل ما يقرب من ألف وجرح عدة آلاف، معظم من قتلوا وجرحوا فى فض الاعتصام هم من الشباب، ولا شك أن ثوار يونيو ويناير لهم فيهم معارف وأقارب وأصدقاء. ومع أنهم يدركون مسئولية قادة الإخوان عن الدفع بهؤلاء فى مواجهة عدمية، وإصرارهم على مواصلة الاعتصام رغم تحذيرات متعددة، وتردد من جانب جهاز الشرطة والجيش فى الإقدام على فضه، إلا أنه لا يمكن إنكار شعور بالحزن أن فض الاعتصام انتهى بهذا العدد الهائل من القتلى والجرحى الذى لم تعرف مصر مثيلا له فى الخلافات الداخلية بين مواطنيها.
وقد أدت مشاعر خيبة الأمل فى مؤسسة العدالة حدا دعا حركة تمرد إلى التفكير فى التظاهر ضد بعض الأحكام القضائية، وهو ما نفذته بالفعل على نطاق محدود حركة شباب 6 أبريل. إلا أن موجة الاستنكار قد اتسعت وامتدت إلى التساؤل عما إذا كان المسئولون عن توجيه الاتهامات فى هذه المؤسسة يعبرون حقا ليس عن روح موجة الثورة الثانية فى يونيو، بل يتعاطفون أصلا مع موجتها الأولى فى يناير. وصل الأمر إلى إحالة بعض رموز ثورة يناير، ومنهم كل من أسماء محفوظ وإسراء عبدالفتاح إلى القضاء العسكرى بهذا الاتهام الممجوج الموروث عن عهد مبارك وهو تلقى أموال من مؤسسات أجنبية والعمالة للخارج وتهديد الأمن الوطنى. ثورة يناير هى فى عرف من يوجهون هذا الاتهام «تهديد للأمن الوطنى» ووصل الأمر إلى موافقة النائب العام على الموافقة على رفع دعوى ضد الدكتور البرادعى بتهمة خيانة ثقة الأمة لتقديمه استقالته عند البدء فى فض اعتصام رابعة. ويتساءل المرء ألا يتحرى النائب العام ما إذا كانت هناك أسس جدية لتوجيه الاتهام وطلب المحاكمة، أم أن ثورة يناير وكل من يرتبط اسمه بها هم فى عرفه متهمون؟ وما هى دلالات ذلك؟.
●●●
وأخيرا لا يجد شباب الثورة، ومعهم فى هذه الحالة مواطنون كثيرون، أن أمور الإعلام قد تغيرت كثيرا. ما زال فى معظمه حكوميا وخاصا ومستقلا، مرئيا ومسموعا ومكتوبا، بوقا للسلطة، وخادما غير أمين لها، لأنه بمبالغاته وأكاذيبه يجعل المواطنين ينصرفون عنه ولا يصدقونه. وفوق ذلك، فمما يحزن ثوار يونيو ويناير، أنه أصبح يستخدم للهجوم على ثورة يناير، واتهام قادتها بالعمالة للخارج وللترحم على النظام الذى أطاحت به هذه الثورة المجيدة.
قلت فى بداية المقال إن العلاقة بين الثورة والدولة هى معضلة كبرى فى تاريخ كل الثورات. فهل يجد الثوار وقادة الدولة منهجا للتعامل مع هذه المعضلة قبل أن تتفاقم، وتتجذر على نحو يدعو قطاعا من الشباب أن يحلم بموجة ثالثة من ثورة يناير؟.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
ومدير شركاء التنمية