يوما بعد يوم تظهر الخبايا، وتنفضح المؤامرات والأسرار، وتسمع الأحاديث التى دارت فى الغرف المغلقة عبر السنين والعقود فى طول وعرض بلاد العرب. الذين يشعرون بقرب نهاية حياتهم، أو بوخز ضمائرهم، أو بالعار الذى سيلطَّخ سمعتهم هنا وبعد الموت بدأوا يكتبون مذكراتهم، أو يتحدثون عبر الفضائيات، أو يفاجئون الجالسين فى المؤتمرات.
ما عادت هناك أسرار، إذ نحن فى عصر الاعترافات وقصص المخالفات التى ارتكبت وراء ظهور المواطنين والإعلام وكل مؤسسات الرقابة المجتمعية الأخرى.
لقد فعل ذلك العرب وغير العرب، المسئولون الكبار والمتعاونون الصغار من السياسيين والاقتصاديين والعسكريين والأمنيين، من الجواسيس والأزلام، ومن كبار الشركات ومؤسسات المال. لم تسلم مهنة ولم تتورع طائفة ولم تنأ بنفسها جماعة. فالفساد الذممى والأخلاقى أصبح وباءً فى العالم وفى وطننا.
كثير من هؤلاء، وبأشكال مختلفة من التعبيرات يعترفون بدور محدد فى ما لحق من دمار وموت وتهجير وسفك دماء ببلدان عربية وبشعوب عربية، سواء القريبة منهم أو البعيدة عنهم، سواء التى آذتهم أو التى لم تؤذهم قط.
كل ذلك حدث والمجتمعات العربية تغط فى النوم، أو تعانى العجز والشلل التاريخى، أو تغض الطرف لأسباب طائفية أو قبلية أو اقتصادية انتهازية أو أمنية متوهمة.
ما يهمنا هو الإشارة إلى جانب بارز مشترك فى كل قصص الأسرار والفضائح والاعترافات العربية. إنه الدور الكبير الذى لعبته المؤسستان الاستخباريتان: الموساد الصهيونى والاستخبارات المركزية الأمريكية. لقد كانت الجهتان حاضرتين فى المناقشات والتخطيط والتمويل والتنفيذ واستقطاب المجانين، وبمعرفة تامة ومباركة من قبل أصحاب القرار ومالكى السلطة فى هذا النظام السياسى العربى أو ذاك.
***
نحن إذن أمام عهد عربى جديد يتصف بالتخلى التام عن الاستقلالات التاريخية الوطنية والقومية، وعن الالتزامات القومية العربية المشتركة، عندما نشرك فى أمور متطلباتنا الأمنية العربية ومحددات علاقاتنا العربية والإقليمية مؤسستين لعبتا أدوارا إجرامية أو تآمرية فى تاريخ العرب الحديث وفى طول وعرض بلاد العرب.
لسنا بحاجة لإثبات التاريخ الأسود للموساد الصهيونى. فتاريخه الدموى الجبان فى اغتيال كل عالم أو سياسى أو مقاوم ميدانى فلسطينى أو عربى قاوم المشروع الصهيونى ــ معروف للجميع، وتمدده السرطانى الاستخباراتى فى كل قطر عربى ينكشف بين الحين والآخر فى هذه المدينة العربية أو تلك. إنه مؤسسة رعب وإجرام لخدمة المشروع الصهيونى الاستعمارى التوسعى فى كل أرجاء العالم.
من هنا فإن وضع يده فى يد أية جهة عربية أمنية لا يمكن إلا أن يكون له هدف واحد: خدمة المشروع الصهيونى على المدى البعيد، إن لم يكن القريب.
لسنا هنا أيضا بحاجة لسرد تاريخ مؤسسة الاستخبارات المركزية الأمريكية، فلقد كتبت مئات الكتب عن ذلك، بما فيها اعترافات بعض مسئوليها السابقين ممن استيقظت ضمائرهم فجأة وحاولوا غسل أياديهم الملطخة بدماء الأبرياء بدموع التوبة والندم. إنها مؤسسة لإحداث الانقلابات فى البلدان التى لا تخضع لواشنطن، لاغتيال قادة السياسة الذين يقاومون المصالح الأمريكية الاقتصادية والعسكرية عبر العالم كله، لبث حملات الأكاذيب والتلفيقات والمخاوف المتوهمة حينما يراد إدخال أى رأى عام فى أى مكان فى عوالم التشويش والضياع، إنها لتمويل مراكز البحوث لاكتشاف أكثر الوسائل النفسية والجسدية الحقيرة اللا إنسانية القادرة على انتزاع الاعترافات من المساجين كما فعلت، مثلا فى الخمسينيات عندما تم استعمال أبحاث جامعة ميجيل الكندية الشهيرة ليقوموا بتجارب على مرضاهم النفسيين البريئين من أجل الوصول إلى أشنع وسائل التعذيب وغسل الأدمغة.
فهل حقا أن مؤسسة تمارس كل أنواع الأنشطة اللا أخلاقية واللا قيمية، عبر العقود وعبر العالم كله بدون استثناء، ينتهى الأمر ببعض العرب للتعاون معها وإشراكها لتلعب دورا محوريا فى إشعال حرائق الجحيم العربى فى هذا البلد العربى أو ذاك؟!
***
يسأل الإنسان نفسه: لماذا حدث ويحدث كل ذلك؟ لماذا وصل الحال ببعض العرب لأن يضعوا أيديهم فى أيادٍ تقطر من أصابعها دماء الأبرياء العربى وغير العربى، وذلك من أجل تسهيل نجاح صراعاتهم المؤقتة ضد بعضهم البعض؟
الجواب الأساسى المحورى هو: غياب المؤسسات القومية المشتركة الفاعلة التى يمكن اللجوء إليها لحل الخلافات العربية – العربية من جهة أو للوقوف ضد القوى الخارجية التى تستفرد بهذه الدولة العربية أو تلك.
لقد بحت الأصوات وهى تطالب بوقف العبث بمقدرات هذه الأمة بسبب غياب المرجعيات السياسية العربية المشتركة. ولقد أصبح ضعف الجامعة العربية والمجالس الإقليمية المشتركة، كمجلس التعاون الخليجى ومجلس الوحدة المغاربية، ومنظمة التعاون الإسلامى، سبَّة فى جبين هذه الأمة التى تنتحر دون أن تدرى، وتخرج من التاريخ دون أن يرف لها جفن، ويضحك العالم على قلة حيلتها وانهيار إرادتها وتخبُطها الأمنى والسياسى والاقتصادى والثقافى دون أن تقلق.
أيها الشاعر المتنبى العظيم، اسمح لنا أن نذّكر أنفسنا، نحن الذين نشعر بفقدان توازننا فى أجواء الجنون التى نعيش، بتشخيصك ونبوءتك القديمة: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.