الشعب فرح ببيان القوات المسلحة. قبل البيان، ليلة الأحد، هتف الناس «إنزل يا سيسى / مرسى مش رئيسى». وحين مرت المروحيات فوق المتظاهرين فى محيط الاتحادية كنا نراها كتلة من الضوء الأخضر المتراقص والناس تصوب الليزر نحوها، تلاعبها. الناس فرحانة، تحتفل، تقريبا، بالنصر. سيدات، أطفال، بنات، شباب، رجال. فى هذه اللحظة، الانتصار المؤمل هو على الإخوان وعلى الدكتور محمد مرسى. والدكتور مرسى يتحمل مسئولية هذا. قيادات الإخوان ورئيسهم وسياساتهم تتحمل مسئولية أن يخرج رئيس مباحث أمن الدولة السابق فى مظاهرة وكأنه من الثوار، أن تمشى الشرطة، بزيها الرسمى، تحت سنانير جيكا ومحمد الجندى ومحمد الشافعى وتحت علم مينا دانيال. أن يهتف الشعب بعد أقل من سنتين من محمد محمود: «الجيش والشعب إيد واحدة»، وأن يحدث كل هذا والبلد لم تمر فى أى عملية أو مرحلة تشابه التصارح والتصالح، وأمهات الشهداء لم يجدن بعد ما يبرد نارهن.
قضيت اليوم أتمنى، أتمنى، أتمنى أن يخرج علينا رئيس الجمهورية بتصريح يقول فيه أنه وعى أخيرا غضب الشعب، وطموحاته، وأوجاعه، وأنه دعا «فلانا» من خارج اتجاه الإسلام السياسى، إلى تشكيل وزارة، وأعطاه الصلاحيات الكاملة فى هذا، وأن فلانا وافق، وأن التيارات السياسية كلها قد بدأت فى العمل معا، وهى تحمل، معا، مسئولية وضع البلاد على بداية الطريق الذى اختاره الشعب كله حين طالب بالكرامة الإنسانية محددا أهداف ثورته: عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.
لم يحدث. طبعا. وصدر بيان الفريق أول عبدالفتاح السيسى، وبعد البيان ضجت العاصمة بالكلاكسات، وجاءت المروحيات الخمس، تطير فى تشكيل أنيق، حاملة أعلام مصر، وجن عليها الناس. الجيش يغازل شعب مصر العظيم، وشعب مصر العظيم يستجيب للغزل. مساء الإثنين، فى ازدحام السيارات غير المعقول فى الخليفة المأمون يمر الشباب إلى جانب السيارة: «زَمَّر! ما بتزَمَّرش ليه؟» متى تتحول الروح العالية، الجامعة، إلى بدايات الفاشية؟ شابان يقفان وسط السيارات، يواجهان السيارات المقبلة بلافتات كتب عليها: «المجد للشهداء» و«لم ننس: القصاص». أحييهما. تيار السيارات المتدفق مهم، والوقوف فى وجهه بالحقيقة أيضا مهم.
فى شارع جانبى ثلاث سيدات كبيرات السن يحفزن الشباب: «ماتخافوش! إوعوا تخافوا!»
وفى منتصف الليل سمعت ببدء اعتصام فى الجيزة أمام جامعة القاهرة فذهبت إليه. أعداد كبيرة. لا تقارن بأعداد الاتحادية أو التحرير طبعا، لكنها كبيرة مع ذلك، ربما ثلاثة أو أربعة آلاف، وما زالوا يأتون. الاختلاف الأساسى فى شكل الجمع أن غالبيته العظمى من الرجال، الأسر قليلة جدا. فى الساعة التى قضيتها رأيت فقط أربعة أطفال. متوسط العمر أكبر كتير من التحرير والاتحادية.
الذى وصل إلىّ فعلا هو إحساسهم الحاد بأن هم الشعب، وهم الثورة، وإحساسهم بالظلم، وبالتحدى. مجموعات مختلفة تتحلق، رجال يقودون الهتاف، ومجموعات أخرى تتحكم فى مرور السيارات، بالذات عند الحودة من جنب حديقة الأورمان متجهة إلى الدقى. أمشى وسطهم. أول ما أسمع، غير الهتافات، رجل كبير السن، ضاحك، يقول ــ ليس لأحد بالتحديد ــ إلا لو كان حاطط بلو توث لا أراه: «ماتخافوش، ماتخافوش، الأكفان موجودة. الأكفان كتيرة والحمد لله».. السيارات تمر مفردة وببطء شديد. هتافات متقطعة من أماكن متفرقة «إسلامية! إسلامية!» رجل يسأل: «الشيخ حازم جاى؟» فجأة، رجال يجرون من كل ناحية إلى سيارة ميكروباص فيحاوطونها، يتدافعون عليها فيرتفع الهتاف من الجمع المحيط بهم: «سلمية! سلمية!» الميكروباص يحمل على زجاجه الأمامى ملصقا أحمر يعلن «أنا نازل ٣٠ يونيو». تدافع، وخبط على الميكروباص، ورجال يضعون أجسادهم بين المتدافعين والباص، والركاب داخل الباص يحافظون على حيادية وجوههم، وثلاثة شباب ــ أعتقد أنهم تبع الميكروباص ــ يخرجون بأجسادهم من الباب والنوافذ فيفردونها على أكبر مساحة ممكنة من الباص لحمايته، فيمر هكذا ببطء شديد، أجساد الشباب مفرودة عليه، والرجال يخبطون عليه لكنهم يتحاشون الأجساد والزجاج. تهبط درجة التوتر باختفاء الميكروباص وتتناثر النصائح باتباع السلمية: «يعنى هتكَسَّرُه؟ هتكَسَّرُه؟ ماينفعش..» أحدهم يسأل: «الشيخ حازم جاى؟» مجموعة أخرى تتجمع حول شابين على موتوسيكل. هناك دائما أشخاص يحولون دون حدوث العنف. العنف موجود، يتغلغل، يجرى بيننا فى المكان، لكنه ما زال غير متحقق، غير مرئى. رجل على جانب الطريق، يزعق فى أصدقائه، ينفس عن نفسه، يكاد يصاب بأزمة صحية من فرط ضيقه وغيظه: «يعنى مرتضى منصور فى التحرير؟ مرتضى منصور م الثوار؟ والجيش يطير لهم من فوق ويرمى لهم أعلام؟» من جانب شعلة العِلم يرتفع هتاف «إسلامية! إسلامية!»، ثم، وبحُرقة شديدة «بالروح، والدم، نفديك يا إسلام!» تتخلل المشهد طول الوقت هتافات «مُرسيـيـيـى، مُرسيـيـيـى»، وحين أترك المكان يكون الهتاف السائد: «الثوار بيقولوا / مرسى مش بِطُولُه!»
وقت الكتابة: بيان رئيس الجمهورية يسير فى نفس الطريق الموحود المغلق الذى أصر عليه الرئيس وناصحوه منذ فازوا بأول انتخابات ديمقراطية فى تاريخ البلاد. الشرطة تحب الشعب وتحترمه، ومسيرة الأمن المركزى تضم إلى الثورة. إعلام ماسبيرو تحول لعدد من الأيام بقدرة قادر إلى إعلام شبه حقيقى شبه مهنى، يميل إلى البدلة الميرى. القوات المسلحة تحب الشعب وتحنو عليه وهتجيب له حقه. الإخوان يشعرون بالظلم الشديد، وهم الذين بايعوا المجلس العسكرى فى أشرس مواجهاته مع الثوار.
اليوم، جموع الشعب تبادل الجيش حبا بحب وترى خلاصها فى الخلاص من محمد مرسى. وحين تستقر الأمور؟الشعب عرف طريق الشارع. والشعب إن لم يعجبه النظام القادم سيخلعه أيضا. والشعب، فى النهاية، لن يرضى بمن لا يسير به نحو العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية. ربما يكون تدخل القوات المسلحة اليوم حميدا، فهى لا شك لا ترغب فى الحكم المباشر، لكن علينا أن نتذكر مسئوليتها فيما وصلنا إليه، مسئوليتها فى وضعنا الاقتصادى، ثم فى محاولة التشتيت وقتل روح الثورة، وعلينا ــ أثناء هذا الغزل المتبادل ــ أن نعمل ــ لخير الجميع ــ على حثها فى اتجاه مصلحة الشعب. وعلينا أن نتذكر دائما أن معتصمى الجيزة ورابعة هم أيضا من الشعب، وأن لا أحد سيهنأ بثورة أو بإنجازات دون مشاركتهم، وأن علينا أن نجد طريقة لخلق وتمكين هذه المشاركة. ولنبدأ بعدم استعمال خطاب السجون والمشانق. ولنضع نصب أعيننا أن هناك شبابا تموت الآن، فى أسيوط والإسكندرية والقاهرة، وأن هذا موت مجانى، فليكف العواجيز عن تشجيعه.