أمريكا تتغير.. شاءوا أم أبوا - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمريكا تتغير.. شاءوا أم أبوا

نشر فى : الأربعاء 3 أغسطس 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 3 أغسطس 2016 - 9:35 م
تدخل الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية مرحلة جديدة، أتوقع أن يلجأ خلالها المرشحان ترامب وكلينتون، إلى رفع شعارات وتقديم مقترحات لسياسات بهدف «ترطيب» الأجواء السياسية، وبشكل أدق وأهم، «تبريد» حالة التطرف التى تسببت فيها المراحل المبكرة من الحملة الانتخابية. المرشحان، كلاهما، سوف يسعيان خلال المرحلة القادمة، أى حتى نوفمبر، لكسب أصوات المترددين، أى الناخبين الذين لم يختاروا بعد الرئيس الذى يريدون. هؤلاء بحكم التعريف وتجارب التاريخ أبعد ما يكونون عن التطرف ويميلون بشكل عام إلى من يضمن لهم «استدامة» السياسات واستقرار الأوضاع.

***

اقترب يوم الانتخابات، واقترب موعد إعلان اسم الشخص الذى سوف يتولى الحكم فى أهم دولة فى العالم، حتى الآن على الأقل. هذه النتيجة، كيفما تكون، لن تغير من واقع التوقعات السائدة، وهو أن أمريكا لن تعود، فى ظل أى رئيس قادم، الدولة التى عرفناها. لقد بدأ التغيير فى أمريكا، وعندما نتوقع تغييرا فى مكان ما، فنحن لا نتصوره فى شكل معين أو استنساخا لتجربة أسبق، إنما نتوقعه استنادا إلى مقدمات اجتماعية واقتصادية وسياسية، سبقت الانتخابات الراهنة وتأكدت بها.

أقول هذا، وفى ذهنى أربع مجموعات من التطورات، رسمت كل مجموعة منها صورة لتغيير جوهرى فى موقع ما من مواقع الحياة الأمريكية.

أولا: تغير الكثير من عناصر التوازنات والتحالفات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى هيمنت على عمليات صنع السياسة فى أمريكا خلال ثلاثة أرباع القرن الماضى. كتب Chollet، أحد المحللين المحترمين، عن انفراط ما كان يعرف بالمجمع الصناعى العسكرى الأمريكى، صانع السياسات ومقررها ومنفذها فى أمريكا، لصالح ما صار يعرف بالمجمع الصناعى ــ الإعلامى ــ السياسى. يريد المحلل أن يبلغنا أن العسكريين كقوة عظيمة التأثير فى صنع السياسة الأمريكية تنازلوا لتحالف جديد أو طبقة سياسية من الإعلاميين والسياسيين حلت محلهم فى قيادة العمل السياسى الأمريكى. شعرت على الفور بالرضاء عن الفكرة التى يطرحها السيد chollet فى مقاله الذى نشرته له مجلة ناشونال انترست فى نهاية يوليو، ولكنه نوع الرضا الذى يبقى فى حاجة دائمة لشواهد تدعمه حتى يستقر فى الذهن قناعة نبنى عليها. إلى حين ذلك، أستطيع أن اقترح توضيح المقصود بطبقة السياسيين الجدد بأنهم الجماعة الأكاديمية ــ السياسية التى تهيمن الآن على صناعة الفكر السياسى الأمريكى، وتتدخل بصفة مؤسسية وإعلامية وشخصية فى كثير من علاقات الدولة الخارجية وكذلك فى بنيتها الداخلية. أستطيع أيضا أن اقترح إضافة الطبقة المالية – المصرفية ليحمل اسم «المجمع السياسى ــ الاعلامى ــ المالى» بديلا للمجمع الأشهر والمنتهية فيما يبدو صلاحيته، وأقصد «المجمع الصناعى العسكرى» الذى كشف عنه الرئيس دوايت ايزنهاور فى نهاية ولايته فى النصف الثانى من عقد الخمسينيات.

***

ثانيا: كان يعجبنى فى بعض التحليلات التى تناقش انتقال الحكم فى أمريكا تعبير يقارب فى الشبه بين عملية الانتقال من رئيس إلى رئيس من جهة وسباقات التتابع فى الركض أو السباحة، حين يسعى المتسابق إلى أن يسبق غيره من المتسابقين بهدف أوحد وهو تسليم المهمة التى كلف بها إلى شخص آخر، ليستمر هذا الآخر فى تنفيذها بالدقة والسرعة الواجبتين. بحثت فى حقيبة الرئيس باراك أوباما التى سوف يسلمها للمتسابق الذى يليه عن مواقف وسياسات يمكن أن يعتبرها أوباما وحزبه «مستدامة» الطابع والمحتوى، بمعنى أنها تفرض على الرئيس القادم تبنيها والتزامها. تذكرت، وأنا أبحث فى الحقيبة، أن رؤساء ما بعد الحرب العالمية الثانية حرصوا على أن يكون فى حقائبهم سياسات تضمن استمرار الحصار المفروض على الاتحاد السوفيتى واستمرار تدفق المعونات على غرب أوروبا بهدف انعاشها فى وجه الزحف الشيوعى واستمرار دعم إسرائيل. كل من هذه المجموعات من السياسات لم يقصر رئيس من رؤساء النصف الثانى من القرن العشرين فى الالتزام بها واحترامها أيا كان الحزب المنتمى إليه.

أعود إلى حقيبة أوباما استكمل البحث فيها كما بحثت فى حقائب أسلافه فى عصر الحرب الباردة، لأجد ما يلى.. جيوش أمريكية فى خارج البلاد أقل عدة وعددا من أى وقت سابق، ولأجد أيضا أمريكا وقد حققت لأول مرة فى تاريخها أقرب شىء ممكن إلى وضع الاستقلال فى مجال الطاقة، وجدت فيها أيضا حزمة سياسات تعكس شفافية غير مألوفة فى استخدامات أسلحة القتل المباشر والدقيق مثل اغتيالات قادة الإرهاب كما حدث مع بن لادن وغيره، ومثل غارات طائرات الدرون، أى الطائرات بدون طيار. لا أظن أننى تجاهلت أو لم ألاحظ فى الحقيبة وجود سياسة أو موقف يحمل صفة الاستدامة لها أو له أهمية تشبه أهمية السياسات الثلاث التى تركها لخليفته الصديقة هيلارى أو لحليفه الخصم دونالد، هى المهام الثلاث التى تعكس فى رأيى أحد أهم جوانب التغيير الذى وقع فى منظومة السياسة الخارجية والدفاعية الأمريكية خلال العقود الأخيرة.

***

ثالثا: لم يحدث على هذا النحو أو بهذه القوة أن ترشح مواطن أمريكى لمنصب الرئاسة وهو فى الأصل غير منتم فعليا أو بالولاء لحزب من الحزبين الكبيرين، الجمهورى والديمقراطى، ثم يدخل هذا المواطن حلبة الصراع على المنصب مدفوعا بقوة تمرد عاتية على منظومة السياسة الأمريكية أو برغبة عارمة لتمرير برنامج أو مشروع تغيير إصلاحى، يشمل جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة. لا يفوتنى وأنا أجمع المرشحين الاثنين ترامب وساندرز فى خانة واحدة، وهى الرغبة فى التغيير أن أميز بينهما، فالفروق شاسعة وعميقة. الاثنان متمردان على طبقة «مديرى السياسة» فى الحزبين، وهى طبقة تمتد من حزب إلى آخر وتستخدم نفس الأساليب البيروقراطية وأولوية المصالح الفردية وتضع فى صدارة أولوياتها مسألة تمويل الانتخابات. الاثنان قررا العمل على كسر احتكار هذه «الطبقة» داخل الحزبين، وإجبار الحزبين على أن تكون الحكومة المصدر الوحيد للتمويل، وأن لا تعقد فى السر أو وراء أبواب مغلقة مفاوضات بشأن الترشيحات أو البرنامج الانتخابى، اتفقا كذلك على ضرورة إجراء انتخابات أولية يشارك فيها جميع المرشحين بدلا من صيغة المؤتمرات المحلية.

واقع الأمر هو أن المرشحين المتمردين، وهما بيرنى ساندز ودونالد ترامب، يدركان أنهما يتمردان ليس على قادة سياسيين حزبيين، ولكنهما فى نفس الوقت يتمردان على الآباء المؤسسين أنفسهم، هؤلاء الآباء هم الذين صاغوا المبادئ والأسس التى بنى عليها من جاء بعدهم من السياسيين قواعد العمل الحزبى وأسس الترشيح.. بمعنى آخر وضعوا الشروط الواجب توافرها فى من يترشح ومن يحكم. لقد وضع الآباء المؤسسون النظام الذى يكفل عدم وصول «غوغائيين» إلى مشارف الحكم، وعدم الاعتماد على «أهواء الشعب»، بل العمل بكل جد واجتهاد لتقليل فرص أن يكون للشعب دور «مهم» فى صنع السياسة وأن يخضع اختيار الحكام للطبقة السياسية نفسها وليس لعامة الشعب.

وضعوا موانع لمنع «الشعوبيين» والغوغائيين من الاقتراب من مراكز السياسية فى أمريكا، أوصوا مثلا بتوسيع دائرة المنافسة بين القوى السياسية المختلفة وتشجيع أساليب التراضى والمساومة مع مراعاة تضييق فرص المشاركة الشعبية، أوصوا أيضا بإقامة «مناطق محايدة أو آمنة» تفصل بين المواطن والحكومة.

حدث أيضا أن تغيرت تركيبة الحزبين السكانية. نعرف أن الحزب الديمقراطى قام أساسا على أكتاف طبقة العمال البيض ثم تخلى عنهم أو تخلوا هم عنه. الآن يقوم الحزب على ائتلاف أقليات. هناك مثلا المثليون والحوامل والسود واللاتينيون وأنصار البيئة. هذه الصيغة الائتلافية جعلت الحزب الديمقراطى، فى رأيى، أكثر مرونة وأقل تقبلا لأفكار التطرف والتشدد، على عكس الحزب الجمهورى.

***

أخلص من سرد هذه التطورات إلى إعلان اقتناعى بأن السباق الحالى حاليا فى الولايات المتحدة هو أقرب إلى أن يكون صراعا بين قوى التغيير وقوى الاستدامة والاستقرار. هو بالتأكيد ليس صراعا بين يسار ويمين بالمعنى الأيديولوجى، وإن احتوى على بعض مقومات هذا الصراع، إنما هو صراع بين طبقة سياسية من جهة، لا لون لها فى الغالب، تتمسك بامتيازاتها وبحقها التاريخى فى «تحريك» القادة السياسيين والمسئولين فى دوائر الحكم، سواء من المشرعين أو التنفيذيين المنتخبين أو الحكام المحليين، وبين قطاعات واسعة متمردة على هذا الوضع، وعلى احتكار السلطة والنفوذ من جانب عدد محدود من الأشخاص أو العائلات أو جماعات الضغط.

اتخذ هذا الصراع أشكالا متعددة عبر المرحل المختلفة للنظام السياسى الأمريكى، إلا أنه ينفرد هذه المرة بخاصية «التدخل الشعبوى المباشر» والواسع من ناحيتين، ناحية سرعة وتتابع التغيرات الاجتماعية وتفاقم فجوات الدخول وتعدد مطالب التخلص من نفوذ الطبقة المالية وكبار الأغنياء، وناحية القضايا السياسية المنبثقة عن استمرار تحكم الطبقة السياسية والبيروقراطية الحزبية. سمعت من يقول، وهو ليس بما يقول بعيدا تماما عن الحقيقة، أن فوز السيد ترامب سوف يعجل بسقوط الطبقة السياسية التى تتحكم فى النظام الحاكم وما يمكن أن يتسبب فيه هذا السقوط من تداعيات هائلة. أما إذا فازت السيدة كلينتون فسوف يفسر نجاحها بقوة صمود الطبقة السياسية وبما يعنى امتدادا آخر فى عمرها. الأمر لن يكون بهذه البساطة فالتعقيدات تحيط بهذا التفسير من جوانب عديدة، أهمها من وجهة نظرى، حقيقة أن فوز هيلارى سوف يظل مشروطا بالاعتراف بأن الاستقرار الذى تعد به لن يتحقق إلا بالاستجابة لمطالب السناتور برنى ساندرز الاجتماعية والاقتصادية. هذه المطالب هى فى الوقت نفسه مطالب قطاعات واسعة من الشباب والفئات المحرومة وفئات مثقفة، ومطالب قوى «ثورية» ما تزال خجولة ولكن تظل حريصة على ضرورة التغيير.

أعرف أن هناك فى أمريكا وأوروبا الغربية من يجهلون حقيقة أن قوى الاستقرار لم تعد تتمتع باللياقة اللازمة لصد أمواج التغيير، وكثيرون مثلى يعرفون أن الجهل بهذه الحقيقة أو الاستمرار فى تجاهلها كلف الإنسانية ويكلف الآن بعض الشعوب العربية تضحيات غالية.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي