كانت رحلتى الأولى إلى هذا البلد العربى. وصلت على طائرة حديثة الطراز بمعايير ذلك الوقت.. وكعادة الشركات العربية حديثة النشأة كان الطيار ومساعده وأطقم الضيافة من الأجانب وكذلك الحرص الشديد على أن تبدو كل بادرة سلوك عصرية قدر الإمكان، فالطائرة مثلا أقلعت فى موعدها المعلن سلفا وهبطت فى مطار الوصول فى البلد الشقيق فى الموعد المقرر» تقريبا».
●●●
لم يكن الاستقبال أقل حداثة من وسيلة النقل. لاحظت طبعا وجود ضباط أجانب من أوروبا بملابس مدنية يراقبون عمل الضباط «الوطنيين»، وعمال نظافة أجانب من آسيا يكنسون ويمسحون ويراقبهم مشرفون هم أيضا أجانب من أوروبا. شربنا قهوة الهال فى صالون كبار الزوار بينما كانت حقائبنا تخضع للتفتيش فى صالون مجاور. سعدت عندما أبلغنى المسئول الكبير المكلف باستقبالى أنه خصص لمرافقتى متخصصا إعلاميا درس فى الخارج، وبخاصة فى إنجلترا.. ومصر.
●●●
ركبنا السيارة وجرى تعريفى، وبدقة أكثر، طلبت تعريفى بالسائق الذى لن يفترق عنى إلا عندما يحين موعد النوم.. عرفت أنه بلوشى، من قرية ما على الحدود بين أفغانستان وباكستان ولا يتحدث العربية، وإلى جانبه جلس المرافق خريج الجامعات الأجنبية، بعد أن رفض بمودة شديدة الجلوس معى على المقعد الخلفى. سألته عن سبب الرفض فقال: «أنا تقريبا لا أريد إزعاجك». لم أتوقف عند كلمة تقريبا، رغم أننى سمعتها تتردد فى صالون المطار حتى تخيلت أنها من لوازم الحديث فى هذا المجتمع، وأنها ربما لا تعنى شيئا.
لم يكن سهلا استدراج مرافقى للحديث. حاولت من مداخل شتى وأسئلة متنوعة وفشلت. كانت الإجابات دائما قصيرة، وفى الغالب مبتورة، لكن جميعها بدون استثناء، احتوت على «تقريبا»، هذه الكلمة التى تصورتها كما قلت فى البداية لازمة من لوازم الحديث فإذا بها شرط من شروطه. سألت عن السنوات التى قضاها فى مصر فقال أربع «تقريبا»، أما سنوات التدريب فى إنجلترا فثلاث تقريبا، والمواد التى تخصص فيها فكانت الرأى العام والتحليل الصحفى تقريبا ومن اللغات اللغة الإنجليزية تقريبا.
غلب الظن أنه يذكر ويعرف الإجابة الدقيقة وأنه يتعمد التمويه. بدأت أجرب الأسئلة الشخصية، بعضها عن عائلته، فاتضح أنه «تقريبا» متزوج، وعنده من الأطفال أربعة تقريبا، وزاغ من الإجابة عن نوعهم. يسكن فى حى لا يبعد «كثيرا تقريبا» عن مقر عمله، ويشاركه فى غرفة مكتبه بالوزارة زميل واحد «تقريبا».
●●●
لم أيأس، واستمرت محاولتى لفهم هذا اللغز الذى بدأ ملاحظة عابرة وانتهى مسألة ثقافية. عرفت بعد أيام من المحاولة، أن «تقريبا» كلمة يلقوننها للطفل فى البيت ثم المدرسة حماية له من حسد الآخرين. فالحسد، هكذا شرحوا لى، لا يصيب إلا الثابت والمؤكد والمضمون. أما كل ما هو متغير أو مشكوك فى صحته أو عقله أو عدده أو جودته فهو غير قابل لحسد الحاسدين.
●●●
عدت إلى قواميس الغرب لأكتشف معلومات كانت غائبة عنى أو لعلها لم تخطر على بالى من قبل. عرفت أن دراسات أجريت لمناقشة الأسباب التى تدفع بالروائيين ومفكرين إلى الإكثار من استخدام كلمة تقريبا Almost. قيل إن بعضهم يستعمل الكلمة بضمير غير نزيه ونية سيئة لإخفاء حقيقة ما أو للتشكيك فيها. أغلبنا حاول وهو صغير أن يتفادى الاعتراف بارتكاب ذنب فأدخل فى روايته عن فعلته كلمة «تقريبا». صعب أن نقرر أنها نوع مخفف من الكذب. أصعب كثيرا أن نقرر أنها جزء أصيل من ثقافة غير واثقة وجزء لا يقل أصالة من ثفافة هروب ولا مبالاة.
●●●
سمعت خبيرا إعلاميا يحاول أن يغرس فى شبان وشابات يعملن بالصحافة بعض أخلاقيات المهنة. كان ينصحهم بتجنب استخدام كلمة «تقريبا» فى التقارير التى يكتبونها. فالصحفى، حسب رأيه، ملتزم تسجيل الحقيقة، ولكنه بمجرد أن يكتب كلمة تقريبا فى الخبر يكون قد أعلن من حيث لا يدرى، وبعضهم للأسف يدرى، أنه غير واثق من صحة ما يكتبه.
ومع ذلك فللكلمة فوائد غير قليلة، فهى بالتأكيد يمكن أن تخفف من وقع خبر كارثة على إنسان فضلا على أنها تسهل هضم واستيعاب كلمات ومعان تبدو بدونها صادمة أو خارجة عن مألوف الحديث. وبعضنا، وهو يكتب تحليلا أو رأيا، يحاول تجنب الوقوع فى محظور «خطأ وخطر المؤكد» بسبب ضعف الثقة فى الإحصاءات فيضيف «تقريبا». آخرون يفضلون استخدامها بين الحين والآخر لأنها تسمح لهم بالتراجع عما كتبوه إن اكتشف القارئ فيه مبالغة أو شططا.
●●●
منى أن يكون الاستخدام المفرط فى مصر لكلمة « تقريبا» جزءا من مرحلة ثقافية عابرة. الكلمة ليست بعيدة عن مفردات أخرى سائدة فى مصر مثل «ماشى وما تدقش ومالو» أو عن مفردات سائدة فى أنحاء العالم العربى مثل «معلهش والله غالب» ومصيرها جميعا إلى الاندثار مع تقدم العلم والتعليم.