طب وأطباء فى حياتى - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 3:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طب وأطباء فى حياتى

نشر فى : الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 - 6:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 - 6:50 م

 كان يقال إننى ولدت على يد جد الزميل والصديق وزير الخارجية الأسبق أحمد ماهر طبيب العائلة الممتدة وعيادته فى شارع فاروق، على المسافة الواقعة بين باب الشعرية والعباسية، ولدت ومعى مرض حساسية قوية. كان بين من اكتشفوا هذا الأمر مبكرا الطبيب الأشهر الدكتور الظواهرى فى عيادته الكائنة وقتئذ قرب المبنى القديم لجريدة الأهرام وبقى معنا يراقب حالتى ويشخص ويعالجنى على امتداد سنوات طفولتى ومراهقتى.

• • •

عشت أيضا، طوال هذه السنوات وسنوات عديدة أخرى أعانى من احتقان شديد فى الحلق والتهاب فى اللوزتين. أذكر طبيبا آخر لازمنى حتى أوائل عقد الخمسينيات من القرن الماضى عندما أجبرته الظروف السياسية على الرحيل من مصر إلى أوروبا وربما منها إلى إسرائيل. أذكره رجلا محبب الوجه وأنيق الملبس يهودى العقيدة ويسكن حى السكاكينى، وكعادة أطباء كثيرين فى ذلك الوقت كان متعدد التخصصات ولا يرفض الدعوة لزيارة المرضى من الأطفال فى مواقع سكناهم، أذكره يدخل إلى الغرفة التى أرقد فيها، يضع حقيبته على المائدة القريبة من فراشى ويخرج منها كيسا من الحلوى ومعه وعد بأن يتركه لى قبل أن يغادر.

• • •

استمرت معاناتى نتيجة احتقان اللوزتين تتسبب فى تعدد حالات تغيبى عن المدرسة وحتى سنوات الدراسة الجامعية وبعدها خلال سنوات العمل الدبلوماسى. رفض أبى وأنا من بعده إجراء عملية استئصالهما إلى أن هاجمنى الاحتقان بعنف غير مألوف وأنا فى العاصمة التونسية حين كانت تستضيف جامعة الدول العربية. كانت إحدى المرات التى اضطرت فيها زوجتى إلى نقلى إلى مستشفى، حيث قرر الأطباء بحزم ضرورة إجراء عملية استئصال اللوزتين فور عودة حال الجسم إلى طبيعته. وبالفعل جرى الاستئصال عند العودة النهائية إلى القاهرة، أى بعد أن تجاوزت نهاية العقد الرابع من عمرى وتحت ضغط عائلتى الصغيرة وبخاصة عندما قرر الأطباء أن استمرار تفاقم حالات الاحتقان قد يتسبب فى تهديد حقيقى لحياتى.

• • •

لم يكن احتقان اللوزتين المرض الوحيد الذى أقعدنى الفراش لمدد ومرات عديدة فقد عانيت من آلام فى فقرات الظهر منذ أن أصيبت عندما أخطأت فى قذف الكرة الثقيلة أثناء مباراة فى لعبة «البولينج». كنت أقضى إجازة قصيرة فى زيارة لفاضل وهيبة القائم بأعمال سفارتنا فى مدينة مونتيفيديو عاصمة الأوروجواى وكانت تبعد عن بيونس آيرس، العاصمة التى كنت أعمل فيها، عشرات الأميال البحرية، لا أكثر. دعانى الزميل خلال الزيارة لقضاء نهاية الأسبوع فى منتجع لعله الأشهر فى أمريكا اللاتينية، إذ تؤمه كل صيف العائلات الأكثر ثراء والأرقى مكانة فى دول القارة. هناك جمعتنا بفريق من شباب الأوروجواى والبرازيل رحلات وسباقات إحداها كانت مباراة فى لعبة البولينج حينها أسأت تقدير قدرة أو مرونة فقرات ظهرى فوقع المحظور.

• • •

قيل فى توصيف الحالة أن غضروفا خرج من مكانه ليهاجم العصب فى كل حركة أؤديها أو حتى أنتويها، ليتسبب فى آلام لم أتصور يومها ولا فى أيامى اللاحقة أن أحدا قبلى يمكن أن يكون تعرض لها وعاش بعدها. نقلت من مونتفيديو إلى بيونس آيرس محمولا وقضيت فى المستشفى أسبوعين خرجت بعدهما ومعى نبوءة من الطبيب المعالج. تنبأ الرجل بآلام مريعة حتى نهاية العمر، آلام لن تتوقف، تهدأ بالأقراص والحقن المخدرة لتعود صاخبة وعنيفة فور انتهاء مفعولها. قال إن رمية كرة البولينج مزقت عضلات فتغيرت معالم واختلت توازنات وأخرجت غضاريف من مخابئها فاختفت أو كادت تختفى إلى الأبد مرونة جسد من قمة رأسه إلى أصابع قدميه.

• • •

أشهد بأن الطبيب الشاب كان وزملاؤه كرماء بالمتابعة الشخصية والعائلية إلى أن غادرت الأرجنتين وأجريت فى القاهرة الجراحات العديدة التى أوصوا بها. أجريت عملية كبرى فى أحد أكبر مستشفيات القاهرة وهناك قضيت ما يقارب الشهر. وبعد عامين أو أكثر أجريت لى بعد تردد شديد من العائلة عملية أخرى فى شقة بمبنى تجارى فى حى الروكسى وأخرى فى مستشفى  فى موقع آخر من مصر الجديدة تملكه جالية أجنبية.

• • •

الغريب فى حكايتى نهايتها. الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على آخر جراحة فى ظهرى، فجأة وقد اقتربت من التسعين وبدون تهليل أو ابتهاج مبالغ فيه، أشهد باختفاء كل الآلام وعودة العود إلى استقامته والرؤية إلى صفائها بعد عقود، بل عمر، من العذاب.

• • •

كلما حكيت لأحد عن ضخامة تكلفة العلاج بالمستشفيات الخاصة فى مصر، عادت بى الذاكرة إلى الفاتورة «التاريخية» التى وردت لى بالبريد العادى على عنوانى بالسفارة المصرية فى بكين والصادرة من قسم الحسابات بالمستشفى الكبير فى بكين متضمنة تكاليف علاج زوجتى عن فترة حملها وبالتحديد منذ ليلة إصابتها بالإعياء الشديد، نتيجة السفر الطويل وهى فى أوائل حملها من نيودلهى إلى بكين، إلى يوم ولادة ابننا سامر، أى على امتداد تسعة شهور من الإشراف الدقيق والزيارات المنزلية وزياراتها المتعددة إلى المستشفى ثم الولادة تحت إشراف مجموعة متميزة من الأطباء والإقامة لمدة أسبوع بعد الولادة، أتذكر انبهارى بالرقم المسجل على الفاتورة محسوبا بالعملة الصينية، وكان يعادل ما يقترب من مبلغ أربعة عشر جنيها مصريا لا غير. رفضت بكل العزيمة أن تتحمل وزارة الخارجية هذا المبلغ  وأصر السفير اللواء حسن رجب على تحميله لها وتسجيله فى وثائقنا الرسمية  باعتباره، حسب رأيه، نموذجا آخر على ما حققته الصين على يد الرئيس ماو تسى تونج من إنجازات اجتماعية.

• • •

يُحكى أننى، وكنت اقتربت من الستين، استيقظت صباح يوم جمعة على آلام مبرحة فى صدرى. لحسن حظى وحظ من حولى ووسط ارتباك شديد فى منزلى اتصل فهمى هويدى الزميل فى الأهرام للدردشة الصحفية التى كنا نمارسها بين الحين والآخر، وبالمناسبة عدنا نمارسها الآن وكلانا على أبواب التسعين. المهم فى حكايتى أن الأستاذ فهمى توسط لنا لدى الدكتور مصطفى محمود ليرسل لنا سيارة إسعاف ويحجز مكانا فى المستشفى الذى يملكه وينفق عليه. قيل لى فى الأيام التالية أن تدخل الزميل فهمى من جهة ثم تدخل آخر من الأستاذ هيكل بعد منتصف الليل ليحصل للمستشفى على حقنة نادرة، كل منهما فى حينه مد فى عمرى.

• • •

نسيت أن أذكر أننى نشأت فى عائلة لم تنجب قبلنا من صار طبيبا أو طبيبة. قررت الأقدار فى نهاية الأمر أن ينضم ابنى إلى سجلات هذه المهنة ومن بعده انضم آخرون. لدينا الآن سامر وفريد ومحمد وباسل، كلهم أطباء فى عائلتى الممتدة قليلا، وكلهم بدون استثناء منتشرون بين الولايات المتحدة وكندا والإمارات العربية المتحدة، وهم متوزعون على التخصصات التالية، الجراحة وأمراض النساء والسموم والتحاليل الطبية. إن نسيت فلن أنسى أننى عشت أفاخر بهم القوم، أغرابا كانوا أم أقارب. أشعر وأنا معهم شعور من سدد دينا كبيرا لأطباء كثيرين من شتى الجنسيات والثقافات عالجونى وعالجوا من أحببت على امتداد حياتى.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي