عندما تعيش في دولة نامية وتجاهد في ميدان العلم فإن عليك حملين: الأول أن تبذل ضعف الجهد حتى تعمل في أبحاثك العلمية مع قلة الإمكانيات والحمل الثاني أن يكون لك إسهامات في مجالات أخرى مثل التدريس أو نشر العلم على العامة أو الإدارة العلمية لأن الدول النامية تحتاج مجهودات مضاعفة من كل فرد ... وعالمنا اليوم هو خير مثال على ذلك فهو رائد علم البيئة النباتية في العالم العربي بالإضافة إلى إسهامات أخرى عديدة كما سنرى ... إنه العالم الكبير عبد الحليم منتصر.
ولد في 2 سبتمبر من سنة 1908 بقرية الغوابيين القريبة من فارسكور بمحافظة دمياط وكانت النشأة الأولي وسط الحقول والأراضي الزراعي التي تمتلكها عائلته من أسباب إتجاهه لدراسة النبات فيما بعد كما يبدو.
بدأ دراسته بمدرسة فارسكور الإبتدائية (تزامل فيها مع عالم جليل آخر تكلمنا عنه في مقال سابق هو الدكتور محمود حافظ) ثم أتمَّ دراسته الثانوية فى مدرسة المنصورة الثانوية ومدرسة الجيزة الثانوية.
التحق بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) ليتخرج فيها عام 1931 وقد تتلمذ فيها علي يد عالم النبات الشهير فرانك والز أوليفر (الأستاذ السابق بجامعة لندن) والذي أصبح رئيساً لقسم النبات بكلية العلوم عام 1929 خلفاً للأستاذ جونار تيكهولم السويدي، أريد أن أتوقف هنا وقفة صغيرة جداً لأشير إلى الأساتذة الأجانب في جامعاتنا المصرية وكيف كان التفاعل معهم يثري الحياة العلمية آنذاك ويجعل التواصل بيننا وبين الدول المتقدمة علمياً حافزاً لنا على التقدم فياليت يعود هذا التقليد ولو بطريقة الأستاذ الزائر، هناك كتاب مفيد وجدته بالصدفة (لحسن حظي) أثناء تفقدي لمكتبة المجلس الأعلى للثقافة بعنوان "الأجانب في الجامعة المصرية" من تأليف حسن نصر الدين وهو كتاب قيم فعلاً ليس فقط لأنه يصف كيف كانت البيئة الجامعية بيئة كوزموبوليتانية علمية ولكنه أيضاً يحكي تاريخ نشأة الجامعة وتطورها... لنعد إلى عالمنا الجليل بعد تلك الوقفة.
حصل عبد الحليم منتصرعلى الماجستير سنة 1933 ثم أوفد في بعثة لدراسة الدكتوراه إلى إنجلترا وأتبعها بزيارة لسويسرا ليستزيد من العلم على يد بعض علمائها البارزين ثم عاد إلى أرض الوطن حاملاً الدكتوراه سنة 1935 (لاحظ قصر المدة!) وهو أول من حصل على هذه الدرجة الرفيعة في هذا التخصص في العالم العربي.
تدرج في السلم العلمي في جامعة القاهرة حتى نادته جامعة إبراهيم (عين شمس الآن) ليعمل أستاذاً بها سنة 1950 ليصبح عميداً بعد ذلك سنة 1954.
وعالمنا الجليل هو مؤسس ورائد أول مدرسة علمية في تخصص علم النباتات أخرجت للعالم مئات الحاصلين على درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه وهذا وحده يجعل بصمته العلمية ممتدة في عالمنا هذا حتى وإن غادر دنيانا، هذه المدرسة العلمية تخصصت في النباتات خاصة في البيئة الصحراوية (الشبيهه بالبيئة عندنا في مصر)، من أبحاث الدكتور منتصر الهامة جداً والمفيدة دراسة بيئة بحيرة المنزلة ودراسة التربة والنبات فى مريوط والعلاقة بين عوامل التربة والنمو الجذور وأثر الكائنات المجهرية فى التربة على نمو النبات والكثير مما لا تسمح المساحة هنا بذكره كاملاً.
لم يكتف عالمنا الجليل بريادته للعلم بل أضاف لها ريادته للثقافة، فقد جمع بين دراسته العلمية ودراسته لتاريخ العلوم وخاصة العصر العلمي الذهبي في الدولة الإسلامية ودأب على التعريف بهذا العصر وبعلمائه الكبار وكتب في ذلك مقالات عدة وكتب مثل كتاب "تاريخ العلم ودور العرب فى تقدمه" (وقد صدرت منه طبعة من الهيئة المصرية العامة للكتب سنة 2013) وكان من كبار الدعاة إلى تعريب العلم في مصر والعالم العربي حتى يصل للجميع لأن من الناس من لا يتقن إلا اللغة العربية وله كتاب قيم صغير الحجم لكنه كبير الأثر بعنوان "العلم في حياة الإنسان" صدر سنة 1984 من مجلة العربي الكويتية وكتاب " قادة العلم فى العصر الحديث " ... إلخ
أنشأ جمعية أنصار اللغة العربية بكلية العلوم في مطلع الثلاثينات (صدر العدد الأول سنة 1934 أي وقت أن كان في بعثته) وأصدرت مجلة "رسالة العلم" التي رأس تحريرها لمدة تزيد عن أربعين سنة ومن شدة نجاحها جذبت أقلام الكثير من العلماء ليكتبوا فيها، يكفي فقط أن ننظر إلى عناوين بعض مقالات الدكتور منتصر في تلك المجلة لنعرفة أهميتها حتى في وقتنا هذا: "ثورة العلم" و"تنظيم البحث العلمى فى مصر" و"العلم فى خدمة الاقتصاد القومى" و"البحث العلمى ومشروعات الإصلاح" و"التخطيط العلمى للوطن العربى" و"الجامعات بين البحث العلمى والتعليم" و"السباق الدولى فى البحث العلمى" و"الموارد العلمية فى البلاد العربية" و"تطور الفكر العلمى ومسايرة اللغة العربية" ... ألا تشعر وأنت تقرأ تلك العناوين أنك تريد أن تقرأ هذه المقالات التي لم تفقد أهميتها لأنها تطرح أسئلة وأفكار مازالت مطروحة على الساحة حتى وإن مر على نشرها أكثر من خمسة عقود؟
هذا العالم الجليل له بخلاف أبحاثه العلمية مئات المقالات والأحاديث والكتب الموجهة للعامة قل أن ينتجها شخص واحد!
كان لعالمنا الجليل دور كبير في إنشاء الجمعية المصرية لتاريخ العلوم مع عالم جليل آخر هو الدكتور مصطفى نظيف والذي تحدثنا عنه في مقال سابق كما كان نقيباً للعلميين وكان عضواً بالكثير من المؤسسات والهيئات العلمية مثل مجمع اللغة العربية (أُختير عضواً سنة 1958) والأكاديمية المصرية للعلوم والمجمع العلمي المصري وجمعية البيئة النباتية البريطانية والأمريكية والجمعية الدولية لعلم البيئة الصحراوية بالهند والكثير من الهيئات التي لن نذكرها كلها هنا.
نال الدكتور منتصر جائزة التفوق العلمى عن كتابه "حياة النبات" سنة 1938 كما مُنح جائزة الدولة التقديرية في العلوم سنة 1987
إذا كنت تظن أن إسهامات الدكتور منتصر كانت فقط داخل مصر فأنت مخطئ لأن هذا العالم الجليل من مؤسسي جامعة الكويت وأول رئيس لها ثم عاد إلى أرض الوطن سنة 1964 ثم سافر إلى المملكة العربية السعودية سنة 1975 حين طلبته مستشاراً لشئون الجامعات بها ثم عاد ليواصل عمله وأبحاثه في جامعة عين شمس.
أريد أن أختتم هذا المقال بمقتطف صغير من أول مقال لهذا العالم العظيم في أول عدد من مجلة رسالة العلم يقول فيه "بدأت الطلائع الأولى تتخرج فى كلية العلوم حاملة علم الجهاد فى ميادين العلم والعرفان مؤدية واجبها نحو الوطن ونحو العلم، وكان لها أن تفكر فى إخراج صحيفة عامية تكون أداة اتصال بين الخريجين وترجمانا صادقا لبحوثهم ومختلف ميادين نشاطهم العلمى " ... أليس الوقت الآن مناسباً ونحن في القرن الواحد والعشرين أن تصدر جامعاتنا المصرية مجلة علمية موجهة للعامة تتحدث فيها عن الأبحاث في الجامعة وعن بعض الموضوعات التي تهم رجل الشارع؟ ألم يأت هذا الوقت بعد؟
رحم الله الدكتور عبد الحليم بدر منتصر متعدد المواهب وغزير الإسهامات والذي رحل عن دنيانا سنة 1992