فى أعقاب الأزمة المالية العالمية المعروفة بأزمة الرهن العقارى فى عام 2008، انتشرت البدائل المختلفة لاحتوائها، وتردد مصطلح «الخطر الأخلاقى» moral hazard ليصف تبعات أكثر الحلول ترجيحا من قبل إدارة بوش الابن، ومن ورائه الحزب الجمهورى وهو خطة إنقاذ bailout المؤسسات المالية المتسببة فى الأزمة، بضخ مزيد من الأموال فيها. على الطرف الآخر وقف الديمقراطيون يطالبون بتوجيه حزمة المساعدات إلى المتضررين مباشرة، وهم جموع المستثمرين الذين عانوا من انفجار الفقاعة.
توصيف الحل الأول باعتباره مثيرا لمخاطر أخلاقية ينبع من حقيقة أن المخطئ يحصل على مكافأة بغرض محو آثار خطئه الذى أنشأ الأزمة بادئ الرأى! فلو أن مؤسسات التمويل العقارى ومنظومة سوق المال ومؤسسات التصنيف الائتمانى لم تتجه جميعا إلى خلق فقاعة من الأوراق والمشتقات المالية غير المغطاة بأصول، لم تكن الأزمة لتحدث.
بذات المنطق ــ والقياس مع الفارق ــ داهمتنى خاطرة مفزعة لدى الإعلان عن استقالة وزير النقل فى أعقاب حادث القطار الأليم. فبينما انشغل الجميع بإحصاء الخسائر ومداواة الجراح والبحث عن المذنبين، وهى أمور يجدر الانشغال بها، ألزمت نفسى بعين مدير المخاطر تقييم جدوى إجراء، بات تقليديا فى أعقاب حوادث القطارات المتكررة كلما كثرت ضحاياها، وهى استبعاد وزير النقل.
فى الساعات الأولى من الحادث تصعب هذه العملية، ويكون الوزير وربما كل المسئولين فى الدولة هدفا لصب الغضب الشعبى، وهذا أمر طبيعى وبشرى أيضا. لكن ما إن يسكت عنك الغضب فإنك تعود إلى سنن الله فى خلقه، محاولا توفير أسباب حياة آمنة لأبنائك وأحفادك، وهو أمر لن يتحقق إلا بأسس راسخة، وحلول مستدامة للأزمات المستعصية.
***
لا أعرف وزير النقل السابق ولم ألتقه، ولى على كثير من قراراته تحفظات عدة سبق لى إعلانها، لكننى وضعت نفسى مكانه، وفكرت بتجرد شديد فيما يمكن فعله فى هذا المرفق الحيوى الذى تراكمت عليه خطايا الإهمال والفساد لعقود طويلة، بعدما كانت مصر هى الدولة الثانية فى العالم التى أدخلت خطوط السكك الحديدية تالية لبريطانيا العظمى!
بسرعة ملفتة تنهال عليك آراء خبراء مواقع التواصل، والتى تتراوح بين روايات عن الصحابة والتابعين فى تحمل المسئولية السياسية، ومقترحات بحلول سحرية تتضمن تطهير المرفق من العمالة الزائدة، وتدريب العمالة غير المؤهلة، ورفع الرواتب وشراء معدات وعربات جديدة «فورا»!... والحقيقة أن أيا من تلك الحلول «الصحيحة» لن يكون ممكنا إلا وفقا لاستراتيجية محددة المعالم والمدى الزمنى وبدائل التمويل.
بفرض أن ذلك الوزير أو من سواه نجح فى وضع استراتيجية وخطط واضحة الاستحقاقات قابلة للمتابعة والقياس، وبفرض أن تلك الاستراتيجية تستغرق عددا من السنوات أو حتى الأشهر والأسابيع، فإنه من الضرورى أن نستوعب أنه كلما كانت الخطة حاسمة مضغوطة ومؤثرة كلما كانت المقاومة أكبر وأكثر حدة خلال تلك الفترة طالت أم قصرت. المخيف فى الأمر والمثير «للخطر الأخلاقى» هو أن تتخذ تلك المقاومة صورا إجرامية للإهمال، يتعمد بها المهمل توريط الوزير فى مسئولية سياسية بافتعال حادث يذهب ضحيته عشرات الأبرياء! وفى النهاية يتم مكافأة هذا الفاسد المهمل باستبعاد الوزير، الذى وضع خطة للتخلص من أمثاله من المهملين المتقاعسين، ولكنها بالطبع ليس خطة فورية التنفيذ ولا ينبغى لها، وإلا ارتفع ضجيج المظالم التى منها ما هو مستحق حيث اتخذت قرارات التطهير بغير دراسة كافية، وكان معول المقاول أسبق من مشرط الجراح فى معالجة جسد مريض يعانى من مرض مزمن عضال.
لا أقول إن هذا ما حدث مع الوزير «عرفات»، أو أن تلك نية السائق المهمل، ولا أدعى أننى قيمت استراتيجية الوزارة أو اطلعت على تفاصيلها، لكننى أتحدث فى العموم، وأفترض أولا حسن التصرف والتدبير فى المسئول، ثم أرتب على ذلك ما عساه يكون جزاء وتقديرا منصفا له ولغيره ممن يتشفى فى مصائرهم البعض لمجرد أنهم مسئولون! كذلك لا أنوى التخفيف من وقع فاجعة ألمت بجموع الشعب، وتركت جرحا غائرا لن تمحوه الأيام. فقط أريد ألا يعمينى الغضب والانفعال عن رؤية الواقع وتشخيص الداء، فنضع بغير وعى شروطا مستحيلة لشاغل وظيفة وزير النقل حتى يفر منها المصلحون الأكفاء، ويصبح شاغلها فى المستقبل رهينة فى يد حرس قديم فاسد لا يستطيع أن يقرب حصونهم المنيعة وإلا كان عزله فى أيدى أصغر عامليهم! هنا يجب أن نواجه أنفسنا بإنصاف وشفافية، ماذا لو فعل الوزير ما طلبناه فكان جزاؤه حادثا لن يكون كرسى الوزارة وخططها ضحيته الوحيدة، بل مع الأسى والأسف ستكون أرواح ودماء الأبرياء ثمنا للعبة غير شريفة يخوضها نفر من المجرمين دفاعا عن مصالحهم الضيقة ضد أى محاولة للإصلاح.
هل معنى هذا أنه لا توجد حلول لتلك المعضلة؟! على العكس هناك حلول عاجلة تبدأ بوضع منظومة إدارة المخاطر، التى تعمل فى أولى مراحلها على تحديد المخاطر وتصنيفها وفقا للاحتمال والأثر، ثم يتم استهداف أكثر المخاطر إلحاحا وأكبرها أثرا بعدد كبير من الضوابط المانعة preventive controls التى تحول أولا وكهدف ضرورى وعاجل دون تسبب الخطأ أو التقصير البشرى فى إحداث خسائر بشرية ومادية، من ذلك ما تتضمنه بالفعل قاطرات السكة الحديد من فرامل الرجل الميت التى توقف القطار إذا بعد عنه السائق، فضلا عن تدابير رقابية تجعل قيادة القطار مسئولية مشتركة بين سائق وفنى مصاحب له... كذلك يتم وضع ضوابط أخرى كاشفة detective controls تكتشف الخطر وتنذر به، وكنت أتوقع فى الحادث الأخير أن ثمة صافرات عليها أن تنطلق فور مرور القطار مسرعا عبر مواقع مختلفة قريبة من المحطة، لربما قلل ذلك من عدد الضحايا. وفى كل الأحوال يجب أن تكون هناك أدوات وضوابط لاحتواء أثر الخطر وتخفيف تبعاته إذا ما تحول إلى أزمة، ومن ذلك أدوات الإطفاء وتجهيزات التعامل السريع والآمن مع الحوادث. صناعة المركبات وخدمات النقل من أكثر المجالات احتياجا لإدارة المخاطر، وهى أكبر مستهلك لخدمات وأدوات إدارة المخاطر والأزمات.
***
لا توجد مؤسسة لا تدير مخاطرها، حتى وإن لم تلجأ فى ذلك إلى المنهجيات الحديثة لإدارة المخاطر. حتى وإن غاب عنها الشكل المؤسسى لإدارة المخاطر، سواء بإنشاء وحدة أو إدارة متخصصة داخل الهيكل المؤسسى للاضطلاع بهذا الدور، أو بتشكيل لجنة
لإدارة المخاطر. عملية إدارة المخاطر يمكن أن تتم بشكل حدسى، ويمكن أن يقوم بها الفرد بصورة لا إرادية، فما بالك بمؤسسات تدار وفقا لنظم ولوائح يخضع لها البشر والآلات؟!
الإدارة العليا فى أى مؤسسة هى التى تلعب الدور الأهم فى وضع الاستراتيجيات التى تحكم عملها، وهى التى تحدد شهيتها للمخاطر Risk Appetite، أى إنها تحدد مقدار وطبيعة المخاطر التى يمكن للمؤسسة أن تديرها وتلك التى يمكن أن تتقبلها. كذلك يملك هذا المستوى الإدارى سلطة التغيير، وهى سلطة مهمة لتغيير نظم وآليات العمل ليتماشى مع متطلبات وضوابط إدارة المخاطر التى يجب زرعها فى كتب وأدلة العمل المؤسسية.
فى عملية إدارة المخاطر من الخطأ التعامل مع الإدارة المختصة باعتبارها الجهة الوحيدة المعنية بتلك العملية. كذلك من الخطأ التعامل مع إدارة المخاطر باعتبارها مجموعة من المهام والمسئوليات التى تمارس بصفة مستقلة عن سائر الأنشطة، إذ يتجه التطبيق الحديث لإدارة المخاطر المؤسسية بحقنها inject فى مفاصل المؤسسة بغير تمييز، ويعد من مؤشرات كفاءة الضوابط الموضوعة لإدارة المخاطر عدم القدرة على فصلها عن العمليات والأنشطة المختلفة فى المؤسسة.
المسئولية الكبرى فى أى مؤسسة عن إدارة المخاطر تقع على إدارتها العليا (وفى هذه الحالة تقع بالتأكيد على الوزير) ومناط تقييم عمل أى وزير النقل يبدأ فى رأيى بتقييم منظومة إدارة المخاطر التى يضعها ويديرها. ومدى التزامه باستراتيجيات وخطط التحوط ثم التحديث والتطوير وفقا للجدول الزمنى الذى يجب اعتماده من سلطة أعلى، ولا ينبغى أن يخرجه عن خط سيره المعتمد حادث عارض سيما إذا كان مفتعلا أو مقصودا به الإضرار بالمسئول. كذلك تقع على الإدارة العليا نشر ثقافة إدارة المخاطر التى لا تنشأ من العدم، بل يجب غرسها فى المؤسسة حتى تتحول مهام إدارة المخاطر إلى نمط حياة وأسلوب عمل.
ستظل فاعلية وكفاءة عملية إدارة المخاطر رهنا بالإرادة والإدراك. فبدون إرادة للتعامل مع المخاطر والتعايش معها سيكون من الصعب تحقيق العوائد المرجوة والمرتبطة بتلك المخاطر، كما سيكون من الصعب أن تفرض عملية إدارة المخاطر فرضا على ممارسيها فى إطار قواعد ملزمة وقوانين لو لم تجتمع إرادة المؤسسات والأفراد على هدف التعامل مع المخاطر بغرض التخفيف من آثارها السلبية واغتنام الفرص والعائدات بأقل قدر من الضرر أو الخسارة المحتملة. أما الإدراك فهو شرط لازم لتقدير طبيعة ومصدر وحجم الخطر، ولاختيار الأسلوب الأمثل للتعامل مع هذا الخطر وفقا لأحدث الأساليب والممارسات.