يمثل ما جرى فى مباراة الزمالك والأفريقى التونسى صورة صارخة لخطورة الاستناد إلى «شرعية الحشد» بديلا عن «شرعية القانون»، فالجماهير التى نزلت أرض الملعب بالآلاف أصابتنا بالفزع، همجية ووحشية غير مبررة، ورغبة شريرة فى التدمير والانتقام، مشهد مرعب لم نره فى ملاعبنا من قبل، برغم أن المباراة كانت توشك على الانتهاء، وبرغم أن الحكم منح الفريق المصرى ضربة جزاء، وطرد لاعبا من الفريق الضيف، وبرغم أن الشعب التونسى ـ وهذا هو الأهم ـ أكرم وفادة العمال المصريين الذين فروا من جحيم القذافى فى ليبيا، فأطعموهم وآووهم حتى أبلغوهم مأمنهم، فهل هكذا يكون رد الجميل، وهل هكذا يقابل الإحسان؟
حتى كتابة هذه السطور، لم نعرف حقيقة ما جرى، البعض يقول إنها الثورة المضادة، ويشير من طرف خفى إلى أن تواطؤ الشرطة الذى سمح بحدوث هذه المهزلة، وبحسب زعمهم فإن ضعف الوجود الأمنى كان مقصودا، كى تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، والحقيقة أن هذا القول يحتاج لمناقشة، خصوصا أن الشرطة مازالت تتحسس مواضع قدميها، وتتجنب أى مواجهة مع الناس، فما بالك لو كان هؤلاء الناس هم ألتراس كرة القدم.
التحقيقات وحدها ستكشف مدى صدق هذا الاستنتاج من عدمه، وحتى ذلك الحين، فإننى أحذر مما سبق أن حذرت منه قبل ثلاثة أسابيع، من مخاطر إغواء «الجماهير الغفيرة».
وبالمناسبة فإن هذا الإغواء سبق ثورة 25 يناير بسنوات، ولعل ذاكرتنا مازالت تحمل تلك الصور السيئة لحالات التحرش الجنسى التى شهدتها شوارع القاهرة خصوصا فى الأعياد، والتى كان أبطالها جماعات من المراهقين لم تسلم منهم حتى المحجبات والمنتقبات، وعمليات الغش الجماعى التى جرت فى عدد غير قليل من مدارس مصر فى الأقاليم، وفى حالات كثيرة اقتحم الأهالى الفصول وهددوا المدرسين واحتجزوا بعضهم رهن الإقامة الجبرية، حتى تم تلقين أبنائهم الإجابات كاملة غير منقوصة.
مازلنا نتذكر أيضا عمليات قطع الطريق التى صارت خبزا يوميا تتغذى عليه الصحف، مرة لأن سيدة صدمتها سيارة، وأخرى لانقطاع التيار الكهربائى لعدة ساعات عن إحدى القرى، وثالثة بسبب نزاع على نوبات الرى.
مازلنا نتذكر هجوما استهدف قضاة على المنصة أصدروا أحكاما لم تعجب خصوما فى قضية، أو قسم شرطة احتجز متهما له عزوة وعشيرة.
مازلنا نعايش استيلاء خطباء من الظلاميين محدودى العلم والبصيرة، على مساجد وزوايا فى أنحاء المحروسة، واجترائهم على الفتوى وتكفير الناس وإقامة الحدود، وتدنيسهم لأضرحة أولياء الله الصالحين وتهديدهم بإزالتها عن بكرة أبيها.
مع حالة الغياب الأمنى التى نعيشها، وتراجع القدرة على ردع البلطجية والمخالفين والمخادعين، فإن شرعية الحشد تكتسب كل يوم أرضا جديدة، خصما من شرعية القانون، التى قامت الثورة كى تعيد لها السيادة، بعد أن سحقها الطاغية وأذنابه.