الاستعداد لرحلة في أمريكا اللاتينية - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 4 يوليه 2025 10:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

الاستعداد لرحلة في أمريكا اللاتينية

نشر فى : الجمعة 4 يوليه 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 4 يوليه 2025 - 7:25 م

كانت واحدة من أمنيات الشباب تلك التى تحققت أخيرا حين أخذتنى رحلة عمل خلال الأسابيع الماضية إلى أمريكا اللاتينية.

تمنيت دوما زيارة هذه القارة الواقعة فى النصف الجنوبى من الكرة الأرضية، والتى ارتبطت أسماء بلدانها فى وعيى الشخصى إما بتواريخ شخصيات سياسية بارزة أو كتابات أدباء مبدعين أو صنوف من الموسيقى الممتعة أو لاعبين كرة قدم صنعوا بالمهارة والأداء الجميل مكانة خاصة للعبة الأكثر شعبية فى عالمنا. تمنيت التعرف على المجتمعات اللاتينية عن قرب بعد أن سمحت لى ظروف الدراسة والعمل وعلى مدار فترة زمنية طويلة بالتعرف على زميلات وزملاء رائعين جاءوا من هناك وحملوا هموما إنسانية مشابهة لهمومنا.

• • •

كانت المحطة الأولى فى رحلتى اللاتينية هى ميامى، نعم مدينة ميامى الأمريكية الواقعة فى جنوب ولاية فلوريدا. لأن عقوبات الولايات المتحدة المفروضة على كوبا تجعل من زيارتها لغير الأمريكيين من أصول كوبية أمرا صعبا، ولأن رحلة عملى تعلقت بمشروع بحثى ميدانى هدفه مقارنة الأداء الاقتصادى والاجتماعى والسياسى لبعض حكومات الجنوب العالمى، ولأن اختيار الفريق البحثى وقع على الجزيرة الكاريبية لدراستها كحالة من بين حالات أخرى.

 ذهبت إلى ميامى لإجراء لقاءات مع متخصصين فى شئون الجزيرة التى رفعت، بقيادة فيديل كاسترو وتشى جيفارا فى خمسينيات القرن العشرين لواء الثورات الشيوعية فى القارة اللاتينية ودفعت العالم فى الستينيات إلى حافة الحرب النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى السابق (أزمة خليج الخنازير فى ١٩٦١)، وأرسلت فى السبعينيات قوات عسكرية للمساعدة فى تحرير المستعمرات البرتغالية فى القارة الإفريقية، وأطباء، ومهندسين، ومعلمين لدعم جهود التنمية واستمر نظامها الشيوعى قائما بها بعد تفكك الراعى السوفييتى وانهيارات النظم المشابهة فى أوروبا الشرقية فى التسعينيات. لم تفعل الجزيرة الصغيرة هذا وحسب، بل حققت طوال العقود الماضية معدلات تنمية بشرية جيدة وحافظت لمواطنيها على مستويات خدمات صحية، وتعليمية، وسكنية مرتفعة، ثم تراجع كل ذلك بشدة خلال السنوات القليلة الأخيرة.

ذهبت، إذا، إلى ميامى ذات الإطلالة الساحرة والشواطئ البديعة على المحيط الأطلسى للقاء علماء فى السياسة، وصحفيين، وكتاب يتابعون أحوال كوبا وتنتمى أغلبيتهم إلى المجتمع الأمريكى ــ الكوبى بأجياله المتعاقبة منذ خروج معارضى الثورة الشيوعية فى نهاية الخمسينيات. إلى هنا سيتوقف حديثى عن الشق البحثى فى زيارة ميامى وأنتقل إلى مشاهدات وملاحظات إنسانية كانت هى التى ملكت على الوجدان والعقل.

• • •

فالمدينة التى تتحدث الإسبانية أكثر مما تستخدم الإنجليزية ويتعجب فى شوارعها سائقو سيارات «أوبر» من عدم مخاطبة الركاب لهم بالإسبانية، هذه المدينة الجميلة بها حى يطلق عليه «هافانا الصغيرة» كان هو الوجهة المفضلة الأولى لزميلتى فى مؤسسة كارنيجى سارة يركيس وناتلى تريش اللتين رافقتانى فى جزء من الرحلة اللاتينية، وإلى هافانا الصغيرة ذهبنا.

على عكس المظهر العام للمدن الأمريكية الكبيرة التى يندر أن نجد بها ما نسميه بالعامية المصرية «وقفة الناصية»، كانت مجموعات الشباب والأسر متعددة الأجيال التى تتجاذب أطراف الحديث وترتفع ضحكاتها على قارعة الطريق هى صاحبة المشهد الأبرز فى الحى ذى الأغلبية الأمريكية ــ الكوبية.

 كذلك لفت نظرى وجود مبانٍ مخصصة كمتاحف صغيرة أو معارض دائمة لحياة وخبرة الجيل الأول الذى خرج من كوبا بعد سقوط نظام باتيستا وانتصار الثورة الشيوعية بقيادة فيديل كاسترو فى يناير ١٩٥٩ واندماج وإسهامات الأجيال التى تلته فى الحياة الأمريكية ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وماليا. وكان إقبال جمهور من عموم المواطنات والمواطنين على زيارة تلك المتاحف والمعارض واضحا، مثلما كانت واضحة خفة ظل القائمين عليها الذين جاءوا على سبيل المثال بنماذج لسيارات الخمسينيات الأمريكية الفارهة التى كانت تستخدم فى كوبا آنذاك وطلوها بألوان مبهجة ووضعوها أمام بوابات المبانى لجذب اهتمام المارة وتشجيعهم على اكتشاف عالم الأمريكيين-الكوبيين (https://thecuban.org/).

وكعادة السيدات الأمريكيات اللاتى يبحثن دوما عن الأماكن التى ينبغى زيارتها والمقاهى والمطاعم الحاصلة على تقييمات جيدة من مرتاديها، قادتنى سارة وناتلى إلى مقهى «فيرساى» الواقع فى قلب هافانا الصغيرة والذى يعلن عن نفسه باعتباره «أشهر مقهى ومطعم كوبى فى العالم» (https://www.versaillesrestaurant.com/) وزجتا بى دون قصد إلى حالة جميلة من استدعاء ذكريات قديمة ومن تداخل فضاءاتها مع مشاهدات الحاضر على نحو لم أعهده من قبل.

ذكرنى مقهى «فيرساى» ببهوه الواسع، وبالعدد الكبير من الندلاء الذين يعملون فيه وبزيهم الموحد وبحسن ضيافتهم بمقهى «جروبى» فى القاهرة الذى كان بفرعيه فى «وسط البلد» (فرع ميدان «طلعت حرب» وفرع شارع «عماد الدين») مكانا مفضلا لوالدى رحمه الله، وكثيرا ما اصطحبنى إليه. غير أن البهو الواسع لفيرساى ومشهد بعض الندلاء الرجال وهم يلقون بظهورهم إلى الحوائط والأعمدة خلال لحظات الهدوء النسبى للعمل نقل ذاكرتى من «جروبى» إلى أماكن أخرى كثيرا ما استوقفتنى بها مشاهد مشابهة فى «وسط البلد» فى القاهرة.

 الأماكن هى محلات «هانو» و«جاتينيو» و«صيدناوى» التى كانت تشغل مبانى باهرة الجمال وأسستها أسر يهودية مصرية وانتقلت ملكيتها إلى اليد العامة فى الستينيات (قرارات التأميم ١٩٦١) وترددت عليها كطفل فى السبعينيات. حينها كان مشهد العمال المتواجدين فى الردهات وظهور الرجال الملقين إلى الحوائط ملفتا لى، مقارنة بدأب عمالة المحلات الصغيرة ذات الملكيات الخاصة ومقارنة بحال العاملات من النساء اللاتى دوما ما رأيتهن على نشاط مستمر إن فى محلات «القطاع العام» أو «القطاع الخاص» كشأنهن فى كافة مناحى الحياة الأخرى.

• • •

ثم كانت الموسيقى التى صدحت داخل «فيرساى» بمثابة دعوة مفتوحة لعودة ذكريات رائعة عن شخصيات ولحظات ارتبطت بكوبا. أثناء إعدادى لأطروحة الدكتوراة فى ألمانيا، حصلت على منحة دراسية من مؤسسة «هانس زايدل» التابعة للحزب المسيحى الاجتماعى وهو الشقيق الصغير للحزب المسيحى الديمقراطى والمقتصر جغرافيا على ولاية بافاريا فى الجنوب. وكان من بين ما تنظمه المؤسسة لمتلقى المنح رحلات تعليمية إلى جامعات أوروبية خارج ألمانيا بغرض التعرف على تقاليد أكاديمية وثقافية مختلفة.

 فى ١٩٩٦، اشتركت فى إحدى تلك الرحلات التى ذهبت إلى جمهورية التشيك (براغ) وسلوفاكيا (براتسلافا) والمجر (بودابست) واستفدت على نحو عظيم من التعرف على ما تركته حقبة الحكم الاشتراكى فى أوروبا الشرقية (١٩٤٥-١٩٩٠) من إرث فى الجامعات، والمسارح، والصحف التى كانت حينها تسعى إلى التأقلم ليس فقط مع حرية البحث العلمى والفكر والتعبير التى جاءت بفعل التغيير السياسى، ولكن أيضا مع اقتصاد السوق الرأسمالى الذى كانت آلياته تضغط بقوة لتخفيض أعداد العاملين وتقليص المقابل المالى المدفوع لهم (مرتبات ومعاشات) والحد من قوانين الحماية من الفصل وضمانات الرعاية الصحية والإعانات الاجتماعية.

 واشتركت فى الرحلة أيضا محامية كوبية كانت فى سبيلها للحصول على درجة الماجستير، وتطورت بيننا علاقة صداقة لطيفة وكانت هى من عرفتنى على أنواع الموسيقى والرقصات فى بلادها كالسالسا والرومبا والتشا تشا تشا وكانت من اللطف أن عرفتنى أيضا على رقصات كاريبية أخرى كالمارينجى والكاليبسو. تذكرت المحامية التى كانت تحب كاسترو واليسار ولا تحب الولايات المتحدة، وتتحدث عن الأمرين كهويتها الشخصية.

أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى

 

عمرو حمزاوي أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي
التعليقات