المَهرَب - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 5 يوليه 2025 2:55 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

المَهرَب

نشر فى : الجمعة 4 يوليه 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 4 يوليه 2025 - 7:25 م

 

التقيت وأصدقاء قدامى وتشعَّب الحديثُ في أكثر من اتجاه، ثم راحت الأغلبية تتبادل الآراء بشأن المَهْرَب المناسب؛ ما وقع انفجارٌ نوويٌّ وانبعثت الإشعاعات. جاء اللقاءُ قبل توقُّف الحرب بين إيران والكيان المُحتل، وقد اتخذ الكلامُ طابعَ الهذر والتنكيت وتعالت القهقهاتُ بما جاوزَ حجمَ المَخاوف التي انتشرت في الأجواء؛ فما كان من أحد الرِّفاق أصحاب الحِسِّ السَّاخر سوى أن أعلن عن لا مبالاته؛ دافعًا بالمثل الشعبيّ الشهير: "ضربوا الأعوَر على عينه"؛ فهتف الباقون في صوت واحد: "قال خسرانه خسرانه".

* • •

المَهْرَب اسمُ مكان من الفعل هَرَب، الفاعل هارب والمصدر هَرَبٌ وهُروبٌ وهَرَبَان، وإذا كان الشَّخصُ كثيرَ الهُروب؛ قيل إنه هرَّابٌ بفتح الراء وتشديدها.

 

أحيانًا ما يكون الفزع شديدًا والرعب هائلا وفيرًا؛ يصيب المرءَ بحال من الشلل. يعجز الواحد عن النطق ويرتجف جسده، وقد يشحب لونه بصورة ملحوظة ويقال حينها: هرب دمه. الوصف من الناحية العلمية دقيق؛ فمن الناس من يتعرض لصدمة عصبية هائلة في أوقات الخوف أو عند تلقي مفاجأة كبرى، وتتسع حينئذ أوعيته الدموية بما يقلل من تدفق الدماء للبشرة، ويصبح جلده أبيضًا وباهتًا على غير المألوف. هروب الدماء من الوجه علامة دالة؛ تشير إلى عمق التأثر بالموقف، وقد يتطور الأمر لفقدان الوعي.

* • •

عثرت على كتاب قديم مهترئ الأوراق يسوده الاصفرار، يحمل غلافه الممزق من هنا وهناك عنوان "الهروب الكبير"، بدأت في قراءته فإذا بي أمام الرواية التي أخذ منها الفيلم الشهير تحت الاسم ذاته، والذي أنتج في ستينيات القرن العشرين وتدور أحداثه حول خطة مبهرة وضعها معتقلون عسكريون قضوا أعومًا في الأسر داخل سجن ألماني شديد الحراسة وافر الاحتياطات إبان الحرب العالمية الثانية، وقد تمكنوا بها من الهرب والتغلب على سمعة المكان المدوية، وجعلوا منه أضحوكة.

 للهرب من المكان أو من شيء معنوي مكانة لا تنكر في الدراما. قدم عبدلله غيث مسلسل ”هارب من الأيام“ بمشاركة كوكبة من الفنانين بينهم حسين رياض وتوفيق الدقن ومحمود الحديني في مطلع الستينيات. القصة لثروت أباظة والسيناريو لفيصل ندا أما الإخراج فلنور الدمرداش، أما فيلم ”الهروب“ الذي قدمه المخرج عاطف الطيب فبطولة أحمد زكي وهالة صدقي وهو مأخوذ عن رواية ألكسندر دوما ”كونت دو مونت كريستو“، وعرض في التسعينيات.

* • •

بعض المرات يخفق الواحد في موقف دقيق، ويخونه التعبير الوافي عن مقصده وقد يأتي بعكس المراد، فيقال له: هَرِبت منك. القصد أنه لم يكن موفقًا فيما انتقى من فعل أو حديث، والعادة أن يتدبر المرء كلامه وأن ينظر نتائج أفعاله قبل الشروع فيها؛ لكن حال السيولة العجيبة التي نعيشها تستوعب كل الهفوات وترحب بالزلات ولا تجد فيها غضاضةً مهمًا عظمت.

* • •

تعرض قنواتُ التلفزيون الرسمية إعلانات لمواجهة التهرُّب الضريبي، تسعى لاستمالة فئة المُتهرِّبين وتعدهم بالمَيزات ما استجابوا. الضرائبُ في غالبِ البلدان يقابلها حصول الدافعين على خدماتٍ حقيقية، أما لدينا فإن المواطن باحثٌ في معظم الأحوال عن حقوقه الدنيا. على كلِّ، تحمل مفردة "التهرُّب" إيحاءً بالمراوغة الناجحة؛ تلك العملية التي نتقنها ونبرع فيها، فالحاجة دافع للتفوق ما اشتدت.

* • •

إذا جاء الحديثُ حول المهربين الذين يتنقلون عبر الحدود؛ قفزت إلى الأذهان عمليات بيع وشراء السلاح وكذلك المواد المخدرة، وعلى صَعيد أقل خطورة طائفة مُهرِّبي الملابس المستوردة، والحقائب والأحذية الفاخرة، الذين يبتكرون الحِيلَ لتمرير بضائعهم دون أن يضطروا لأداء الرسوم الجمركية الباهظة، أما تهريب إجابات الأسئلة في اختبارات الثانوية العام؛ فصار من أهم ما يحتل السَّاحة على مدار الأعوام. 

* • •

قد يهرب المرءُ في الأوقات الصعبة من نفسِه ومن مواجهة أزماته بالاندماج في سلوك إدماني. التحديق في المحمول لفترات طويلة أحد السلوكيات المعروفة، التذرع بحجَّة الجُّوع والاحتياج الماسّ لتناول الطعام وسيلة هروب أيضًا؛ سرعان ما تتحول إلى إدمان يضرُّ ولا شك بالصحة. كذلك يُعَد الإفراطُ في التسوُّق وابتياع أشياء غير مُهمة ولا ضرورية ضمن سُبُل الهروب المعتادة؛ ما تهيأ الظرفُ وتوفَّر المال. ثمَّة من يهرب من واقعه السيئ بالتوغل في الدين؛ أي دين..

* • •

إذا هرب النومُ من الأعين وساد الأرقُ وتمكن السُّهاد، قفزت إلى الذهن تلك النصيحة القديمة بتناول كوب من اللبن الدافئ؛ لكن تطبيقها يبدو في اللحظة الراهنة من المُحال، فواقعنا  أكبر من النصيحة، واللبن أغلى من أن يتحوَّل لوسيلة استرخاء.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات