البحث عن مصر.. الهوية والعمارة والثقافة - خالد عزب - بوابة الشروق
الخميس 21 أغسطس 2025 10:24 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

البحث عن مصر.. الهوية والعمارة والثقافة

نشر فى : الأربعاء 20 أغسطس 2025 - 8:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 20 أغسطس 2025 - 8:15 م

قد يثير العنوان استغرابك عزيزى القارئ، هل نحن فى حاجة إلى البحث عن مصر؟ سأقول لك: نعم، ولِمَ لا؟ ونحن ندرك أننا غرباء فى الوطن، وأعظم تجليات هذه الغربة هى العمارة، وهى الصورة التى تجسد وضعنا داخل الوطن، ومكاننا فيه، ومدى ارتباطنا به، وما سنتركه للأجيال القادمة من إرث، وما نقرأه عبر ما تركته لنا الأجيال السابقة من إرث. إذا أردنا التفكير فى العمارة، علينا أن نفكر بصورة عميقة، لأنها ليست بنايات تُشيَّد فقط، بل مكانًا نعيش فيه ويعيش فينا، نتفاعل معه ويتفاعل معنا. هذا ما وَلَّد علمين مهمين، هما: علم الاجتماع المعمارى، وعلم النفس المعمارى. فالأول يبحث فى علاقة الإنسان بالمكان وتفاعله معه ومدى ملاءمة هذا المكان للأفراد والمجتمع، والثانى يبحث فى كيفية تأثير المكان فى الإنسان وتأثير الإنسان فى المكان. وهو ما مهدت له تفاعلات الإنسان مع جماليات العمارة؛ فالعمارة التى تبعث على البهجة ليست بزخارفها، بل بقدرتها على جذب النفس ببعد إنسانى، هى العمارة التى تجعل الإنسان يرتبط بالمكان وتبعث فيه قيمًا أخلاقية واجتماعية وجمالية، عمارة الإنسان مع المكان إلى درجة إحساسه بالغربة حين يتركه. فمنزلك الذى تعيش فيه إما أن تندمج معه أو لا، ولذا فتصميم المكان يلعب دورًا فى هذا. وإذا تركت منزلك ذا الألفة معك، فأنت تشعر بالاغتراب.
لماذا تكثف العمارة المعنى فى حياتنا؟
المعماريون يبنون أشياء لها معنى محدد متجسد فيها ويعتمد على الثقافة التى تفسر هذا المعنى. فمثلًا عبر فقه العمران نستطيع أن نقرأ العمارة الإسلامية، فهو علم يقدم القواعد التى صاغت البيئة المعمارية فى الحضارة الإسلامية، بينما فى الغرب صاغت العمارة فى عصرنا فلسفة ما بعد الحداثة، حتى رأينا تماهى أبراج نيويورك مع الرأسمالية المتوحشة. وفى اليابان ما زالت منظومات القيم اليابانية تعطى المنزل تصميمه الخاص، خاصة فى غرف تناول الطعام. لكن ما أفقد العمارة معناها هو لو كوربوزييه المعمارى السويسرى (1887 - 1965م) الذى مهد للتصميم المعمارى بالجملة، أى قولبة العمارة فى شكل إنتاجى متتالٍ متشابه يفقدها معناها، فيصبح البصر فاقدًا الشعور بالمكان وتميزه. فالمدن، كالبشر، تملّ من السير فى شوارعها إذا تشابهت. هذا ما يفسر الإقبال فى العقود الأخيرة على السياحة فى المناطق الصحراوية والغابات بعيدًا عن مدن فقدت عمارتها المعنى الذى تعطيه للإنسان.
إن ظاهر العمارة باطنه موروثات تعبر عن كل مجتمع. ولأن كل بيئة تعطى للعمارة مواد يُبنى بها بطريقة تحقق انسجامًا مع البيئة، فإننا ذهبنا إلى الاعتماد على الكتل الخرسانية والألومنيوم والزجاج فى مدن مصر، بغض النظر عن ملاءمة هذه المواد لبعض البيئات وارتفاع تكلفة المبانى المنشأة بها. فأصبحنا نفتقد سحر المكان وخصوصيته، وبات تقليد ناطحات السحاب الأمريكية كرمز للرفاهية هاجس العديد من المدن. وحتى فى التخطيط العمرانى فقد المشاة قدرتهم على الصداقة مع شوارع المدن، فى الوقت الذى تشكل فيه لافتات الإعلانات بأضوائها المستهلكة للكهرباء تشويهًا لجماليات المدن. كما أن امتدادات الشوارع تجعل سرعات السيارات والحوادث عاملًا سلبيًا وضد الإنسان، فى الوقت الذى أثبتت فيه التجارب أنه يمكن التخلص من إشارات المرور وحوادث الطرق داخل المدن بإحداث منحنى كل 60 أو 80 مترًا. فالشارع هو مفتاح العمارة، فهو يمثل شبكة الربط بين الإنسان والبنايات المعمارية، وشبكة الطرق تسهل السير والوصول إلى مناطق الخدمات والتسوق والترفيه.
لماذا نبحث عن مصر عبر العمارة؟
لأن مصر فى العقود الأخيرة فقدت شخصيتها المعمارية إلى درجة جعلت طرح بنايات جديدة يُفتخر بأن تصميمها إيطالى أو إسبانى أو أمريكى أو فرنسى، فكأن عامل الجذب صار عمارة ليست بها أى روح مصرية. فى الوقت الذى كانت فيه مصر منذ عقود قريبة قد بلورت شخصية معمارية خاصة بها، ويعود ذلك إلى وعى النخب المصرية ومعها الدولة. فالكل فى مصر سعى لهذا منذ بداية تكوّن مصر الحديثة فى عصر أسرة محمد على، ثم تمكن النخب المصرية من مفاصل السلطة فى عصر الخديو إسماعيل وصعود رأسمالية وطنية مصرية. كل هذا بدا كأنه يشكل وعيًا يتطلب التعبير عنه فى المدينة عبر العمارة. كان الخديو إسماعيل أكثر ميلًا للعمارة الفرنسية والإيطالية، مبهورًا بها، لكن الثقافة المصرية وروح الوطن أجبرته على وضع حد لهذا الانبهار. فلذا رأينا قاعة العرش على الطراز المملوكى فى قصر عابدين، وهى التى جُددت فى عصر الملك فؤاد. جرى حوار بين المعماريين الأجانب والملاك من المصريين والأجانب، فرأينا العمارة تأخذ روحًا مصرية مع الوقت. ومع نهاية القرن التاسع عشر وأول ثلاثة عقود من القرن العشرين، رأينا القاهرة بها روح معمارية تعكس صراعًا عنيفًا حول هوية الوطن. فعمارة «تريستا» فى وسط القاهرة نُفذت بعناصر وزخارف إسلامية، فى حين نرى عناصر فرعونية فى عمارة «الشواربى» بشارع رمسيس، لنصل إلى ضريح سعد زغلول الذى نُفذ على الطراز الفرعونى. أما مبانى جامعة القاهرة فقد أتت القبة المركزية لتعبر عن مركزية العلم فى المشروع الوطنى المصرى للنهوض، وعلى جانبيها كليتا الحقوق والآداب، وهما يرمزان إلى أنه بدون العدل لن تقوم مصر وتنهض، وبدون العلوم الإنسانية، ومنها الفلسفة التى تُعلِّم النقد لن يكون لمصر مكانة. ويرتكز الجميع على مبانى كلية العلوم التى تمتد بعرض مساحة الجامعة خلف القبة، وهذا يرمز إلى أن مشروع النهضة المصرى يرتكز وينهض بكل فروع العلوم التطبيقية. هكذا عبّر مصمم جامعة القاهرة عن مصر ومشروعها. كانت مصر الواعية تدير حوارات فى الصحف، وكانت العمارة هى الصورة التى تعكس هذا الحوار. فشارع رمسيس شُيدت به جمعية الحشرات وجمعية الاقتصاد السياسى والتشريع على الطراز الكلاسيكى الحديث، وهو ما رآه المعمارى ضروريًا لأن هذه العلوم وافدة ونحن فى حاجة إليها. فى حين صمم المهندس مصطفى فهمى مبنى جمعية المهندسين على الطراز المملوكى الحديث لأنه يعبر عن رغبة مصر فى استعادة مجدها المعمارى الذى بلغ ذروته فى العصر المملوكى. ثم جاء مبنى مستشفى الهلال الأحمر على الطراز الإسلامى فى ذات الشارع ليُهدم، ويأتى بعده مبنى مستشفى لا روح فيه، كما هى مصر المعاصرة.
إن علينا أن نراجع المشهد العمرانى والمعمارى فى مصر، لأنه الصورة البصرية الباقية فى حياتنا. فقد كانت مصر لسنوات يُشاد بها وبعمارتها من الأهرامات إلى العصر الحديث. أما الآن فالمشهد بائس وكئيب. فغياب المسابقات المعمارية أدى إلى إدخال مهنة العمارة فى مصر غرفة الإنعاش تمهيدًا لموتها. فالمسابقات، خاصة فى المنشآت العامة والمشاريع الكبرى، تخلق روحًا تنافسية تجعل البلد يحصل على الأفضل إبداعًا وتصميمًا. كما أن مكتبة الإسكندرية أوقفت مسابقة حسن فتحى للمعماريين الشباب فى ظل تراجعها عن أدوارها. والغريب أن هناك جيلًا من شباب المعماريين المصريين تركوا مصر مهاجرين، وبدأ صوت مصرى خافت يعلو عامًا بعد عام فى حقل العمارة فى عدد من الدول مثل ألمانيا. إن نظرة فاحصة لشوارعنا تكشف أن عمارتها تبعث على الكآبة فى نفوس المارة، فالعمارة إما أن تقدم روحًا جمالية تبعث البهجة، أو أنها تسهم فى تدمير الشخصية الوطنية. لذا رأينا شبابنا يسعى للقاهرة التراثية ووسط البلد فى محاولة لإعادة اكتشاف ثقافتهم وتراثهم ومن ثم هويتهم.

خالد عزب  مشرف علي برنامج ذاكرة مصر المعاصرة
التعليقات