نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية مقالا لـ«إيفان كراستيف»، رئيس مركز الاستراتيجيات الليبرالية فى صوفيا، بلغاريا وزميل دائم فى معهد العلوم الإنسانية فى فيينا، جاء فيه تعليقه على موقف دول أوروبا الشرقية من أزمة المهاجرين واللاجئين التى شهدتها أوروبا منذ أغسطس الماضى، منتقدا فيه سياسات حكومات تلك الدول، ومستشرفا ما قد يشهده مستقبل مجتمعات أوروبا الشرقية من تغيرات نتيجة أزمة اللاجئين. ويستهل كراستيف مقاله بتعليق لصحفى مجرى على تدفق المهاجرين الذين يشقون طريقهم عبر المجر إلى النمسا وألمانيا، حيث قال: «لم يعد لدينا مدن، بل مجرد محطة سكك حديدية طويلة».
يبين كراستيف أنه قبل عشرين عاما، كانت المجر وجاراتها فى أوروبا الشرقية، تمر بمرحلة انتقالية، ما بعد الحكم الشيوعى، ومازالت عدة دول مثل بلغاريا، مقدونيا، صربيا تمر بنفس المرحلة. والآن، بين عشية وضحاها، أصبحت هذه البلدان مركزا لعبور المهاجرين. ونتيجة لذلك، مع تدفق مئات الآلاف من المهاجرين، ينبغى أن تشعر أوروبا بالقلق بشأن الصدع بين شطريها الشرقى والغربى، الذى يمكن أن تسببه الأزمة.
***
قد فرضت «شاحنة العار» فى النمسا ومشاهد غرق المهاجرين، موجة من التعاطف فى العديد من بلدان أوروبا الغربية. ففى ألمانيا، تقدم الحكومة نحو 60 فى المائة من المساعدات العامة لتوفير مأوى لنحو ٨٠٠ ألف لاجئ، أى ما يعادل تقريبا 1 فى المائة من سكان البلاد.
وعلى الجانب الآخر يوضح كراستيف أن الجمهور فى أوروبا الشرقية لا يزال غير متأثر، فقد انتقد القادة هناك قرار بروكسل بإعادة توزيع اللاجئين بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى. وتؤيد الأغلبية فى بلدان العبور بناء الجدران على حدودها. كما أظهر استطلاع أجرى أخيرا فى جمهورية التشيك أن 44 فى المائة يصرون على ألا تنفق الحكومة أى مبالغ أخرى لمساعدة المهاجرين.
بل أن رئيس الوزراء السلوفاكى روبرت فيكو ذهب إلى أبعد من ذلك، مؤكدا أن 95 فى المائة من طالبى اللجوء ليسوا لاجئين على الإطلاق، بل مهاجرين اقتصاديين، وان بلاده لن تقبل سوى المسيحيين. ولعل الأبشع، طلب شبكة التلفزيون الوطنية المجرية ــ عبر رسالة إلكترونية تم تسريبها من الصحفيين ــ بتجنب نشر صور لأطفال المهاجرين. ويبدو أن الحكومة المجرية تتخوف، من أن صور المعاناة الأطفال، قد تلين قلوب مواطنيها وتجلب، لا سمح الله، الرحمة.
ويتساءل كراستيف حول ما أصاب أوروبا الشرقية، التى كان «التضامن» هو شعارها منذ ثلاثة عقود فقط. ويجيب على نفسه بأن خيبة الأمل، وعدم الثقة، والديموجرافيا، والديمقراطية هى ما أصابتها. فما حدث بعد الحكم الشيوعى، والإصلاحات الليبرالية، كان أمرا مثيرا للسخرية.
وعندما واجه مواطنو أوروبا الشرقية تدفق المهاجرين، وداهمهم الإحساس بانعدام الأمان الاقتصادى، صدموا بعدما كانوا يأملون أن يكون انضمامهم إلى الاتحاد الأوروبى بداية للازدهار ونهاية للأزمة، بينما يتخوف العديد من زعماء حماتهم من أن يكون السبيل الوحيد لاسترداد الشعبية، صب الاهتمام على الشئون الداخلية فحسب وعدم الاهتمام بالغرباء.
ويعتقد مواطنو أوروبا الشرقية أنهم من يستحقون المساعدة، وأن ذلك كان جزءا من الوعد بالوحدة. وبما أنهم أفقر من أوروبا الغربية، فكيف يتوقع احد منهم المساعدة؟ لقد وعدوا بالسياح، وليس المهاجرين.
لكن الأمر ليس مجرد إشفاق على الذات. فعلى الرغم من أنهم يعيشون فى مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا وروسيا والشرق الأوسط، يتسم العديد من مواطنى أوروبا الشرقية باللامبالاة والانعزالية. فهم التلفزيون البلغارى المال وليس الاهتمام لإرسال صحفيين إلى أماكن مثل سوريا، وهى خطوة كان من الممكن أن تنقل للمواطنين المحليين الأبعاد المروعة لما يحدث هناك. كما أن أفريقيا غائبة تماما عن جغرافيتنا السياسية.
ونتيجة لذلك، شكل الخوف من الإسلام، والإرهاب، وارتفاع معدل الجريمة، والتخوف العام من المجهول، جوهر الهلع المعنوى الذى أثاره تدفق المهاجرين.
***
ويرى كراستيف أن الشعور بالغرابة، والذعر الديمغرافى من أقل عوامل تشكيل السلوك فى أوروبا الشرقية التى تم بحثها إلا أنه عامل حاسم. فوفقا لتقديرات الأمم المتحدة، من المتوقع أن يتقلص عدد سكان بلغاريا بنسبة 27 فى المائة بحلول عام 2050. ومن الممكن أن تشعر فى كثير من الدول الصغيرة فى شرق أوروبا بناقوس الخطر من «اختفاء العرق».
ويشعر المواطنون أن مجىء المهاجرين مؤشر على خروجهم من التاريخ، كما أن الحجة الشائعة التى تقول أن أوروبا التى يتقدم سكانها فى السن تحتاج إلى مهاجرين، تعزز من الشعور المتنامى بالانقباض. وعند مشاهدة التليفزيون، نجد مشاهد كبار السن المحليين يحتجون على توطين المهاجرين فى قراهم الخالية من السكان، حيث لم يولد بها طفل فى العقود الخيرة، يتحطم قلوب البعض من أجل الطرفين، المهاجرين، وأيضا كبار السن الذين يعانون الوحدة ويشهدون عالمهم يتوارى عن الأنظار.
ويضيف كراستيف أن فشل تجربة دمج الغجر يساهم فى عدم الإحساس بالشفقة. حيث يتخوف سكان أوروبا الشرقية من الأجانب لأنهم لا يثقون فى قدرة الدولة على إدماج «الآخرين» بالفعل فى وسطهم. ولا يسهل من الأمر حقيقة أن دول أوروبا الشرقية ديمقراطية. فما نراه ليس الافتقار إلى التضامن، وإنما صراع بين أنواع من التضامن: التضامن الوطنى والعرقى والدينى فى مقابل التزاماتنا كبشر.
***
يؤكد كراستيف فى نهاية مقاله أن أزمة الهجرة تمثل تهديدا وجوديا للاتحاد الأوروبى أكثر من أزمة اليورو أو ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. وقد حذر دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبى، علنا من الانقسام الخطير بين شرق وغرب أوروبا. موضحا أن الرحمة ليست كافية لحل مشاكل الهجرة إلى أوروبا. وقبل بضع سنوات لاحظ الفيلسوف المجرى والمنشق السابق جاسبار ميكلوس تاماس أن التنوير، الذى تجذرت فيه فكرة الاتحاد الأوروبى، يتطلب المواطنة العالمية. ولكن المواطنة العالمية تتطلب حدوث أحد أمرين: إما أن تتحول الدول الفقيرة، أو المعطلة إلى أماكن جديرة بالمواطنة أو أن تفتح أوروبا حدودها أمام الجميع.
ومن الواضح أنه لن يتحقق أى من الشرطين. وتعتبر ليبيا وسوريا من الأمثلة المحبطة: فلم يستطع تدخل أوروبا فى ليبيا ولا عدم تدخلها فى سوريا وقف الحروب فى جوار أوروبا. وسوف تضطر ـ ممزقة بين التزام أخلاقى بمساعدة من هم فى حاجة ماسة إلى المساعدة، وفى ظل استحالة مساعدة الجميع عمل، ستضطر إلى قبول البعض وطرد الآخرين.
ومن المؤسف للغاية رؤية مجتمعات وحكومات أوروبا الشرقية التى تدعى الالتزام الأخلاقى، تغلق أبوابها أمام من يفرون من الموت إلى أوروبا. ومن ثم، يسلط ضعف الرحمة الضوء على أزمة أعمق من ذلك بكثير فى قلب المشروع الأوروبى.