بغداد التى نجهلها - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:34 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بغداد التى نجهلها

نشر فى : الإثنين 5 يونيو 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : الإثنين 5 يونيو 2023 - 8:20 م

«بالتأكيد لن تقيم فى المنطقة الخضراء».. هذا ما قالته لى إحدى طالباتى العراقيات فى برنامج الماجستير، حينما أخبرتها بالغرض من زيارتى لبغداد.. سارعت إلى النفى بجهالة، ظنا منى بأنه ليس من المعقول أن تصمم الأمم المتحدة برنامجا لخبرائها خارج حدود المنطقة الخضراء الآمنة. جدول المقابلات فى رئاسة الوزراء والوزارات والهيئات ومع بعض المستثمرين فى مجال الطاقة المتجددة، كان يوحى بأن الإقامة ستكون فى فندق «الرشيد» المخصص للبعثات الرسمية، وأن سائر الفاعليات ستكون من خلال التحرّك فى السيارات المصفحة داخل المنطقة.. ستكون إذن مهمة داخل الأسوار، ويكون عبور تلك الأسوار إلى الخارج هو الاستثناء الذى لن يتيسّر، إذ يترتب عليه اتخاذ تدابير أمنية شديدة التعقيد، كما كانت مهام سابقة مماثلة.. كنت مخطئا، فبغداد التى أقمت بها أسبوعى الماضى، تغيّرت تماما عما كانت عليه قبل سنوات، خاصة عقب الانفلات الأمنى عام ٢٠١٤ وسيطرة تنظيم داعش على عدة بقاع.
منذ اللحظة الأولى من هبوط الطائرة أرض المطار، يمكن أن تشعر بالاختلاف. مطار بغداد الدولى منظّم ونظيف، ولا يعطى أى انطباع بتدابير أمنية استثنائية، بل كان عبورنا من بوابات الأمن وتسلم الحقائب أسهل فى الإجراءات من كثير من المطارات العربية الأخرى. كان وصولنا قبل دقائق من آذان الفجر الذى تسمعه بوضوح فى جميع الأنحاء، وتصدح به أصوات طيبة بأداء لا ينكره المصريون. الطرق والشوارع خارج المطار لا تختلف عن شوارع القاهرة فى تلك الساعة من اليوم. الحياة وحركة الناس ونشاطهم.. كلها مظاهر مبهجة تدعو إلى الاطمئنان. صحيح لم نكن موفّقين فى اختيار الفندق الذى نزلنا به ليلة الوصول، لكن سرعان ما تم تدارك الأمر، وكان الفندق البديل أفضل كثيرا، بإطلالة مريحة على نهر دجلة الوديع.
الفندق البديل يقع كسابقه فى وسط البلد بالقرب من المنطقة الخضراء، التى يعتقد العراقيون البسطاء أنها كالسجن ذى الأسوار العالية، وأتفق معهم فى الرأى. كنت أتنقل خارج الفندق منفردا سيرا على الأقدام بغير قلق ولا حراسة، غير منزعج إلا بالحر الشديد فى فترات القيظ.
الشعب العراقى محب للمصريين. فقط عليك أن تتحدث ليدرك محدثوك أنك من مصر فتنفرج الأسارير، ويتمنّع البائع رقيق الحال أن يحصّل منك مقابل بضاعته من فيض كرمه ومحبته. فى العراق مثل شعبى شهير يقول: «وانت معزّب جيب سبعة» ومعناه، إذا تلقيت دعوة فأحضر معك سبعة أشخاص، دون حاجة إلى الاستئذان من صاحب الدعوة! تلك المبالغة الشعبية من قبيل الكرم الحاتمى، الذى لا يفرق بين غنى وفقير.
• • •
معدلات الفقر فى العراق تزداد بوتيرة متسارعة نسبيا منذ منتصف العقد الماضى. البيانات الرسمية تشير إلى بلوغ معدل الفقر ما نسبته ٢٥٪ فى المتوسط. ترتفع النسبة بالطبع فى محافظات الجنوب لتتجاوز ٤٠٪ فى بعضها مثل «بيسان» و«المثنى». الوضع مختلف فى «إربيل» فى الشمال، الخدمات والمنافع العامة أفضل من نظيرتها فى كثير من المناطق الأخرى.
ملامح الفقر تتجلّى بشدة فى سوء التوزيع، إذ إن العراق ليس بلدا فقيرا، بل هو بلد نفطى يحقق فوائض كبيرة فى رأس المال، خاصة مع ارتفاع أسعار النفط. الاعتماد على منتج واحد أساس يشكّل مصدرا لمخاطر التركّز، التى تضيف إلى مخاطر هشاشة الوضع الأمنى (على استقراره) خاصة مع تعدد الطوائف والمذاهب والعشائر، وعدم بلورة صيغة وطنية جامعة، على أسس المواطنة المنزّهة عن التعصّب أو التشرذم. سوء التوزيع بين المحافظات وأيضا بين الطوائف المتباينة، يغذّى النعرات الطائفية بوقود من الشعور بالظلم وعدم المساواة فى توزيع عائدات النفط والوظائف الحكومية. القطاع الخاص شبه معطّل، فلا صناعة ولا زراعة تعبّر عن حجم ومتطلبات العراق الكبير.
الكهرباء تواصل الانقطاع، لأن الشبكة القومية ساءت حالها، ولأن مولدات الديزل «بيزنس» مهم كما فى لبنان، يستأثر تجّاره بحجم كبير من سوق الطاقة فى العراق، قدّره البعض بنحو خمسة مليارات دولار سنويا!.. مع ذلك تدعم الحكومة الكهرباء للمواطنين بنسب كبيرة. تكلفة إنتاج كيلوات من الكهرباء ربما تصل إلى ١٠ سنت دولار أمريكى، لكن المستهلك المنزلى يتحمّل منها ما يقرب من نصف سنت فقط، وذلك للشريحة الأولى البالغ استهلاكها حد أقصى ١٥٠٠ كيلوات ساعة!! وهو حجم استهلاك كبير جدا مقارنة بشرائح الاستهلاك فى مصر على سبيل المثال. دعم الطاقة عادة ما يشكّل عائقا أمام الإقبال على بدائل الطاقة النظيفة المتجددة، نظرا لأن المستهلك الرشيد لن يقبل على التخلّى عن المصادر التقليدية للطاقة طالما تدعمها الدولة، مما يجعل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أعلى تكلفة وأقل كفاءة.. لكن الانقطاع المستمر للكهرباء يرفع من تكلفة استهلاكها على المواطن، الذى يضطر إلى تشغيل مولدات بالسولار نصف اليوم، بتكلفة كبيرة تمحو أثر الدعم للكهرباء التى يحصل عليها من الشبكة القومية خلال النصف الآخر. ناهيك عن تأثير الانقطاع المنتظم على سلوك المستهلك الذى يعمد إلى الإسراف فى استهلاك الكهرباء الرخيصة، فيقوم مثلا بتشغيل المكيفات على درجات حرارة شديدة الانخفاض بما يستنزف الكهرباء المدعمة ويرهق المكيفات. فضلا عن غياب الفوترة المنصفة لقطاع كبير من المستهلكين، وانتشار سرقة التيار الكهربائى، التى تدعو إلى مزيد من الضبط والتنظيم لسوق الطاقة.
انقطاع الكهرباء يمثّل إذن فرصة لإقناع المستهلك المنزلى بالتخلّى جزئيا عن الكهرباء المولّدة بالديزل وإحلالها بالطاقة الشمسية التى أتاحها الله للكافة بغير تكاليف تشغيلية، اللهم إلا صيانة الألواح والخلايا الشمسية على فترات.. العراق فقير بطاقة الرياح إلا فى مواقع محدودة، لكن الشمس تحقق سطوعا مبهرا فى غالبية الأنحاء. من هنا كانت أهمية المبادرات الجادة التى أطلقها البنك المركزى العراقى لإحلال الطاقات المتجددة محل الطاقة التقليدية ولو جزئيا، خاصة فى الاستهلاك المنزلى. مبادرة التريليون دينار عراقى (نحو ٦٧٠ مليون دولار أمريكى) التى تسمح للمواطن بالذهاب إلى البنك لتركيب نظام لتوليد الطاقة الشمسية بلا فوائد وبمصاريف إدارية ٥٪ تدفع مرة واحدة فقط، يمكن أن تشكل فرقا فى نمط حياة المواطن العراقى، وفى مستقبل الطاقة ومن ثم الاقتصاد الكلى للعراق.
الإقبال على المبادرة ما زال محدودا، لأسباب كثيرة تتعلق بأسعار الكهرباء المدعومة، وبمكاسب البنوك التى تبدو محدودة مقارنة ببدائل التسهيلات الائتمانية الأخرى، وبالتوعية بالمبادرة، وبمتطلبات الغطاء الائتمانى، وبكون العراق بلدا نفطيا فى الأساس.. لكن هناك فرص كبيرة لنجاح المبادرة، خاصة مع توافر عوامل مساعدة مثل نمط المعمار الأفقى المنتشر (لكنه آخذ فى التغير) واتساع البيت الواحد لأكثر من أسرة فى عائلة واحدة ممتدة. وهذا النمط السكنى مناسب جدا لبسط الألواح الشمسية على مساحات واسعة فوق أسطح المنازل، والتى تخدم مجموعة أسر مترابطة، بتكلفة رأسمالية واحدة، وهى تكلفة الإنشاء التى تتحملّها المبادرة بنسبة ٩٥٪. على المستوى القومى ترتفع تكلفة الفرصة البديلة للنفط المستهلك محليا بشكل كبير.. بمعنى أن كل برميل نفط يتم توفيره من الاستهلاك فى إنتاج الكهرباء المدعمة محليا، وكل متر مكعب من الغاز يتم إنقاذه من الحرق المهدر flaring يحقق إضافة كبيرة للدخل القومى، لو تم تصديره إلى الخارج بالأسعار العالمية.
• • •
تحديات الوضع الطائفى فى العراق تحملنا على استدعاء التجربة اللبنانية باستمرار، لكن فائض رأس المال المتحقق فى الاقتصاد العراقى بسبب صادرات النفط يضع بغداد فى موقف أفضل من بيروت، خاصة فى زمن اختفاء رأس المال المجّانى وتلاشى الفائدة الصفرية من مختلف دول العالم، فى إشارة واضحة على ارتفاع تكاليف التمويل وتفاقم أزمات الديون شرقا وغربا.. تلك إذن ميزة نسبية للعراق كما لدول الخليج العربى، لكنها عادة ميزة مؤقتة مشروطة بظروف الفائض من مورد طبيعى ناضب (النفط والغاز). ومشروطة أيضا بظروف الأسواق، وعدم تطوير بديل اقتصادى للنفط بشكل حصرى، يجعل الاستمرار فى تعدينه عبثا وهدرا.
الاقتصاد العراقى شديد التركّز بالاعتماد على النفط كسلعة قائدة، هذا يجعل نموّه غير مستقر، ويجعله شديد الاعتماد على الدولار الأمريكى، ويجعل الدينار العراقى كثير التقلّب. ولكنه مع ذلك اقتصاد قابل للتنوّع بموارد طبيعية متعددة، حتى بعد تعرّض العراق لمحنة السدود التركية، التى قللت كثيرا من حصته المائية، ليعيش مرحلة جديدة من الندرة المائية بعد وفرة كانت مضرب الأمثال، حق معها وصفه مع سوريا وتركيا ببلاد الرافدين (دجلة والفرات). تحديات الندرة تخلق فرصا لتحويل المحنة إلى منحة، والاقتصاد بوجه عام هو علم الندرة.
عراق موّحّد قوى هو هدف ممكن تحقيقه على أسس من الاقتسام العادل لثمار النمو بين مختلف المناطق (وليس العشائر والطوائف والمذاهب).. التنوّع الثقافى هو قيمة مضافة متى تم استثماره بشكل جيد، ومتى تم إعلاء قيمة المواطنة على أى اعتبار آخر، ومتى تم عقد مصالحة وطنية شاملة، تذرى حوادث الماضى المؤسفة، التى نشبت فى ظل صراع مذهبى عمّقته ضغوط الاحتلال والندرة.
وقد هيأ الله لى زيارة «الأعظمية» حيث مسجد وضريح الإمام «أبى حنيفة النعمان» الذى نتزوّج فى مصر على مذهبه، والذى مات فى سجن الخليفة «أبى جعفر المنصور» على أثر نزاع ذى صبغة سياسية عباسية ــ علوية.. والذى حمله طلابه ليلا من محبسه فى «الكوفة» إلى حيث يرقد اليوم. وقد أخبرنى خطيب المسجد الدكتور «عبدالستار عبدالجبار» أن الإمام أبى حنيفة لم يسلم من التعدّى عليه طوال تلك القرون! بل إن صراع العثمانيين والصفويين، كان يجد فى العراق ساحة ممهدة لممارسة الغلو فى التمذهب، وكانت أضرحة الأولياء والفقهاء ضحية تقليدية لذاك الغلو.. الشيخ «عبدالستار» الذى صليت المغرب إلى جواره هو رجل سمح عاشق لمصر، يجسّد بسماحته وجه العراق المشرق لمستقبل يتسع للجميع. ذلك على الرغم من تعرّضه شخصيا إلى الاعتقال والتعذيب فى سجن «أبو غريب» لسنة ونصف السنة بغير جريمة يعلمها! وفقده لأمه واثنين من أبنائه وبعض إخوته فى النزاع الطائفى.. الرجل يعيش فى سلام وتصالح مع الذات، ويعلم علم اليقين أن الدين لله والوطن يتسع للجميع..

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات