غزوة فاشلة لدولة فاشلة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غزوة فاشلة لدولة فاشلة

نشر فى : الأربعاء 5 أغسطس 2009 - 11:27 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 أغسطس 2009 - 11:27 م
بعد أيام تجرى فى أفغانستان انتخابات لاختيار رئيس جديد للجمهورية أو التجديد لحامد قرضاى الرئيس الحالى. ويتصادف إجراء هذه الانتخابات مع عدد من التطورات الكاشفة عن أبعاد الجريمة التى ترتكبها دوريا القوى الكبرى ضد الشعب الأفغانى. أعرف أنه يوجد فى مصر، كما فى بريطانيا والولايات المتحدة وروسيا، أفراد نهلوا من العلم الشيء الكثير وتحضروا وتنوروا ولكن تطرفوا فى فهمهم للتطور والتنوير إلى حد التعالى على أمم لم تساعدها ظروفها الداخلية وبيئتها الخارجية على امتلاك ناصية العلم. هؤلاء ينطلقون فى إصدار أحكامهم على أفغانستان والعراق من قبلها من قاعدة أن الشعب فى هذين البلدين متخلف وبالتالى يستحق حربا ضروسا تقتلع التخلف وتحرق الأخضر واليابس، فبالنار يتلاشى الظلام وبالدمار تشرق الأنوار.

ثمانى سنوات مرت على دخول القوات الأمريكية والبريطانية أفغانستان فى ثالث عملية غزو عظمى لهذا البلد خلال قرن ونصف القرن. لم تختلف كثيرا الأسباب المعلنة فى هذه الغزوة عن الأسباب المعلنة فى الغزوتين السابقتين عليها إلا فى الشكل، وفى واقع الأمر لم تختلف عن الأسباب المعلنة فى أى غزوة غربية لأراضى أمة من الأمم السمراء أو الصفراء. وفى هذه الغزوة تحديدا تبادل البريطانيون والأمريكيون ذريعتين للتدخل: ذريعة كلاسيكية عن رسالة الشعوب البيضاء لتنوير الشعوب المتخلفة وإخراجها من الجهل والتخلف. وبطبيعة الحال كان البريطانيون الأسبق دائما إلى استخدامها وتفعيلها قبل أن يلحق بهم الأمريكيون. أما الذريعة الثانية فكانت حق الدولتين الغربيتين، وحلف الأطلسى بأسره، فى التدخل عسكريا للقضاء على قواعد الإرهاب فى أفغانستان لتعيش شوارع لندن ونيويورك آمنة مطمئنة.

وبعد ثمانية أعوام من حرب كانت بالفعل شرسة يصدر الرأى العام البريطانى حكمه على حكومته بالفشل فى تحقيق الهدفين اللذين ادعت إنها غزت أفغانستان لتحقيقهما، بدليل أن المعارك الناشبة حاليا فى مقاطعة هلمند ــ حيث تتمركز القوة البريطانية ــ هى الأعلى فى الخسائر من كل المعارك الدائرة فى أنحاء أخرى من أفغانستان. ثم إنه لا يخفى على الرأى العام أن حكومة كابول، بعد سنوات من التدريب المكثف والمعونات الهائلة، لا تسيطر إلا على ثلث الأراضى الأفغانية، بل إن هذا الثلث نفسه مخترق ويفتقد قرضاى ورفاقه أى درجة من الشعبية والشرعية فيه. ولا يختلف الحال فى بريطانيا بالنسبة لمستقبل الحرب فى أفغانستان عن الحال فى أمريكا تحت حكم باراك أوباما. ففى بريطانيا كما فى أمريكا سئم الشعبان الحرب بخسائرها وتكاليفها الباهظة، وفى البلدين تنشر تقارير عسكرية ودراسات مراكز بحث ويدلى المسئولون بخطب وتصريحات تدور جميعها حول احتمال عقد مفاوضات بين ممثلى حلف الأطلسى وممثلى طالبان لتقرير مستقبل أفغانستان.

***

ما تقوله التقارير العسكرية والدراسات السياسية تلخصه كلمات قليلة هى أن قوات الأطلسى الموجودة فى أفغانستان منذ ثمانى سنوات لم تنتصر. لا تقول انهزمت، ولن تقولها، تعترف بأنها لم تنتصر وفى لغة التاريخ تعنى أن قوات الغزو انهزمت. ومن بين ما تسرب من مسودة تقرير الجنرال ماك كريستال القائد الأعلى لقوات الأطلسى الذى ستعلن تفاصيله هذه الأيام، أن دول الناتو فشلت فى تدريب مدنيين فى أفغانستان يترجمون «انتصارات الناتو العسكرية» إلى خدمات للمواطنين، وحاول ماك كريستال الإيحاء بأن القوات الأمريكية نجحت فى تأمين ثلث أفغانستان ليخضع لحكم قرضاى فى كابول وأنها دربت فى هذا الثلث موظفين وإداريين، بينما تقاعست القوات البريطانية فى ولاية هلمند عن تحقيق ذلك فاستمر القتال هناك واتسعت قاعدة التأييد الشعبى لطالبان فيها، ويعتقد القائد الأعلى أنه مازال ممكنا فرض الهزيمة على المتطرفين فى جماعة طالبان لو اهتمت الدول أعضاء الناتو بالجانب المدنى فى الحرب وضاعفت من قواتها المتخصصة للتدريب والخدمات الاجتماعية، مطالبا فى الوقت نفسه بتوفير درجة أعلى من التنسيق بين قوات الناتو وزيادة عدد هذه القوات بشكل عام.

يبدو فى حكم المؤكد أن القيادات السياسية فى بريطانيا والولايات المتحدة قررت السعى لإجراء مفاوضات والوصول مع طالبان، أو ما يسمى من باب الضرورات الإعلامية بالعناصر المعتدلة فى طالبان، إلى اتفاق يسمح للطالبان بالمشاركة فى الحكم. قرأنا ما صرح به دافيد ميليباند وزير الخارجية ودوجلاس الكسندر وزير التعاون الدولى فى حكومة العمال البريطانية، وكلاهما يشير بوضوح إلى رغبة بريطانية فى حث الولايات المتحدة على التخلص من حميد قرضاى الرئيس الأفغانى على أساس أنه العقبة الأساسية على طريق التوصل إلى وئام سياسى فى أفغانستان.

ولكن قد لا يكون قرضاى العقبة الأساسية. قرضاى عقبة كبيرة ولكن ضمن عقبات كثيرة. لقد تمكن، بفضل دعم أمريكا المتواصل له والجماعة الحاكمة، من إقامة شبكة فساد هائلة تسيطر على مفاتيح الحياة الاقتصادية فى كابول والمناطق الخاضعة لها. وبهذه الشبكة توسعت دائرة نفوذه، وبخاصة فى الأوساط البيروقراطية وطبقة كبار التجار والممولين، ومع ذلك يبقى أنه بدون الدعم الأمريكى لن يستطيع وحده وقف مساعى التسوية التى يضغط من أجل التوصل إليها البريطانيون والألمان والفرنسيون. هناك إلى جانب قرضاى وبطانته توجد عقبات أخرى لعل أقواها:

أولا: الزيادة المطردة فى قوة طالبان العسكرية التى إن استمرت بالمعدل الراهن فسوف تدفع مفاوضى الطالبان لمواقف أكثر تشددا.

ثانيا: التحولات المتدرجة فى سلوكيات الطالبان السياسية، وبخاصة ما يتعلق بمواقفها من الحقوق السياسية والدستورية للمواطنين، وكلها توحى برغبة طالبان تحسين صورتهم لدى الرأى العام الدولى وكسب شعبية أوفر فى المناطق التى تخضع لسيطرة كابول. هذه التحولات، وإن كانت شكلية، تمثل إضافة لقوة المفاوض الطالبانى فى مواجهة ممثلى الحكومة والناتو الذين يفتقرون إلى التأييد الشعبى بسبب الفساد وانعدام الأمن ووحشية العمليات العسكرية التى تشنها قوات الأطلسى.

ثالثا: مازالت زراعة الأفيون وتجارته منتعشة، ولا يوجد ما يشير إلى أنها ستنحسر. بمعنى آخر يبقى هذا المصدر المتجدد لتمويل حروب الطالبان وقدرتهم على مقاومة قوات الناتو الحكومة رصيدا معتبرا.

رابعا: أسرَّ لى خبير باكستانى أن كل غارة تشنها الطائرات الأمريكية على قرى بشتونيه فى باكستان أو أفغانستان تثمر متطوعين جددا يهرعون للانضمام إلى قوات طالبان الزاحفة إلى قلب أفغانستان من قواعدها فى باكستان، لم يعد هناك شك لدى خبراء الحرب فى باكستان فى أن استمرار الحرب التى تشنها القوات الأمريكية والباكستانية فى شمال غرب باكستان يضيف إلى قوة طالبان العسكرية وأرصدتهم التفاوضية. يؤكد هؤلاء الخبراء أن أمريكا التى نجحت فى تغيير معادلة الحكم فى باكستان بجلب بنازير بوتو وآصف زردارى من الخارج وإسقاط الجنرال برويز مشرف والحصول على موافقة القادة المدنيين على السماح لقوات أجنبية بشن حرب فى أراضٍ بشمال شرقى باكستان ــ فشلت فى تحقيق هدفها، وربما تسببت فى إضافة تعقيدات أكثر.

خامسا: لن تقبل المؤسسة العسكرية الأمريكية أن تدخل الدبلوماسية الأمريكية مفاوضات مع الطالبان فى ظروف أو بشكل يوحى إلى العالم بأن أمريكا انهزمت. يعيب جاك مارتن الكاتب البريطانى المعروف على الرئيس باراك أوباما اتخاذه «قرارا خائبا يقضى بتصعيد الحرب فى أفغانستان» تحت ضغط المؤسسة العسكرية التى ربما طلبت تعويضا عن قراره الانسحاب من العراق. لا أحد عاقل يتصور أن جيش دولة عظمى يوافق على الانسحاب من حربين فى وقت واحد.

***

لن تجدى مع القادة العسكريين الأمريكيين النصيحة بأن فى التاريخ عظات ودروس لا يجوز الاستكبار عليها بحجة أن الثورة التكنولوجية غيرت مفاهيم الغزو والاحتلال. يقول التاريخ إن إمبراطوريتين تكسرت إرادة كل منهما على صخور أفغانستان، واحدة وهى الإمبراطورية؟؟؟؟؟؟؟ حين كانت الشمس لا تغيب عنها وذلك فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. والثانية كانت الاتحاد السوفييتى فى أواخر القرن العشرين، أما الثالثة، وهى الأمريكية، فما زالت لم تحقق نصرا ملموسا رغم أنها قضت ما يقارب ثمانىى سنوات تحارب، وما زال قادتها العسكريون يعتقدون كالقادة السوفييت من قبلهم، أنهم مختلفون عن القادة العسكريين السابقين الذين شنوا حربا ضد الأفغان وانهزموا.

***

فاز قرضاى بالتجديد أو فشل، خرج الأمريكيون أو تمركزوا فى قواعد عسكرية، ستبقى المرارة تحث جيلا بعد جيل من أبناء الشعب الأفغانى على الانتقام من عالم تواطأ أو تغافل، أجيال نراها ونشهد على ما تفعله انتقاما من عدوان وإذلال كما فى الصومال والعراق وفلسطين والشيشان، أو تستعد لفعله فى بلاد أخرى مثل مصر ولبنان والأردن وسوريا التى تعرضت لغزوات إسرائيلية تواطأت فيها أو تغافلت عنها دول الغرب.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي