لم يدر بخلد الكثيرين وهم يعلقون على كلمة سابقة للرئيس السيسى وصف فيها حال مصر خلال فترة زمنية ما بأنها شبه دولة، أن ينظروا إلى مدى الارتباط المخيف بين تزايد حالة ضعف أركان الدولة، وبين انتشار الحيل والحلول الفردية فى مختلف أوجه المعيشة.
فالدولة قامت لتنظم معايش الناس على أنساق متشابهة، تحدد للمجتمع القوانين والأعراف الحاكمة للعلاقات، توفر حلولا جماعية لإشباع الحاجات الأساسية للسكان، تضمن لهم أسباب الحصول على المأكل والمشرب والمأوى والتعليم والزواج وفرص العمل.. تضع فى خدمتهم المرافق العامة، ووسائل النقل الجماعى، والتأمين الصحى، والتعليم الأساسى... كلما خفت تواجد الدولة فى تلك المجالات كان وصف شبه الدولة هو تعبير مهذب لمرحلة التحول إلى اللادولة أو الدولة الفاشلة! يسعى الفرد فيها إلى توفير ماء الشرب النظيف، يبحث منفردا عن وسيلة مواصلات لا تحترم بالضرورة آدميته، يشترى خدمات الصحة والتعليم دون أدنى مساهمة من الدولة، بل وعادة ما يشتريها من خارج الدولة كلما أمكن. الفرد فى تلك المرحلة هو المركز الوحيد للكون! حالة من التفسخ فى العلاقات الأسرية، وتفشى ظاهرة الطلاق، وتراجع الوازع الأخلاقى والدينى، وتراجع الحس الوطنى، تنتشر جميعا كنتيجة طبيعية لتقديم الأنا على كل شىء. أنا أولا لا يهمنى من أتخطاه فى الصف، لا يعنينى من أطأ على رأسه فرارا من الزحام، هى إذن أخلاقيات الزحام وسلوكياته الكاشفة لسوءات النفس البشرية.
فى شبه الدولة تكتسب أنماط الاقتصاد التشاركى زخما كبيرا، فتجد الشركات التى تقدم خدمات توصيل الركاب من خلال شبكات مجتمعية تشاركية تطغى أخبارها على أحاديث النميمة والبرامج الحوارية ومناقشات البرلمان! يصبح سعر الوقود أزمة خطيرة لأن الاعتماد على المواصلات العامة يتراجع، وتوفير الوقود لوسائل النقل الخاصة من سيارات ودراجات بخارية وتكاتك يصبح مسألة حياة أو موت، لا سبيل إلى العمل واكتساب الرزق بدونها. حتى نقل البضائع وحركة التجارة الداخلية تعتمد على سيارات النقل الخاصة، لم يعد قطار البضائع ينقل شيئا، بل إن بقاء خطوط السكك الحديدية مرهون أولا بحماية القضبان من السرقة! واستمرار هيئة الدولة التى مازالت تقدم خدمات الكهرباء مرهون بحماية الكابلات من السطو والعبث، وهذا السطو من قبل عصابات متخصصة اتخذت من نهب ممتلكات الشعب وتهديد حيواته حلا فرديا أنانيا لضمان البقاء... صورة مصغرة من يوم يقول فيه المرء نفسى نفسى، يفر من أخيه وأمه وأبيه وفصيلته التى تؤويه.. يفر إلى حالة من العزلة والاغتراب.
***
بالتأكيد لا وزن للرفاهية والبحث عن أسباب السعادة وسط هذا القلق المجتمعى. يغلب الحقد والحسد وتمنى زوال النعمة والسعادة من أولئك الذين مازالوا ينشدونها رغم كل شىء. يحتد أحدهم على المازحين، يغضب بعنف لمظاهر الاحتفال التى لا يرى لها وجها منطقيا فى هذا الحشر!... شىء من هذا وذاك يختزله البعض بسطحية بوصف بسيط هو أن الأخلاق تراجعت فى المجتمع؟ حقا هل أنت جاد؟! هل الأزمة فعلا فى تراجع الأخلاق أم أن هذا التراجع هو عرض ومظهر من مظاهر التفسخ والقلق والاغتراب؟! هل تعبر حالات الانتحار المتزايدة عن الفقر والضيق أم عن العجز الشديد واليأس من غوث المجتمع للفرد؟ الفقر كان دائما مرضا مصريا منذ قرون لكن الفردية المفرطة التى كانت مرضا مجتمعيا غربيا خالصا جديدة على المجتمع المصرى الفقير.
الفردية الغربية تحكمها القوانين وتحدها الأطر واحترام الغير والتعليم السليم، ومع هذا فإن قيم التعاطف والتقارب المجتمعى أصبحت شديدة الرسوخ فى كثير من مجتمعات أوروبا وأمريكا الشمالية بعد أن صارت وسائل الإعلام وبرامج الكلام تعلى منها وتجعلها سببا للسعادة ومظهرا ضروريا لدولة الرفاهة. المسئولية المجتمعية هى أحد أعمدة الاستدامة، ولا استمرار لأن دولة بغير الشعور بمسئولية تجاه المجتمع، تلك إذن أهداف التنمية المستدامة التى وضعتها الأمم المتحدة عام ٢٠١٥ والتى تتبناها كل الدول المتقدمة حول العالم، بل وتتمسح فيها الدول النامية والاقتصادات الحدية من وقت لآخر ولو عبر الخطب والمؤتمرات.
الصور القاتمة أعلاه ليست تجسيدا لحال مصر والحمد لله، فالوضع مازال قابلا للإصلاح، لكنك لا تطلق ناقوس الخطر عبر التبشير بجوانب مضيئة، أشهد أنها مازالت كثيرة ومنتشرة فى بلدنا الأمين، بل عبر الصدمة بصور تراجع دور الدولة والمجتمع لصالح الفرد والجماعات التى عادة ما تحكمها أيديولوجيات يعلم الله أى دمار تجلبه فى غيبة الالتزام بقانون الدولة وأعراف المجتمع.
***
لا أحب أن أرى اجتماعات الصلح البدوية والمجالس العرفية تطغى على سلطة الدولة فى حل قضايا جنائية تحت مسمى الثأر تارة ومسمى الفتن تارة أخرى! أحب أن يحكمنا جميعا قانون واحد يطبق على الكبير قبل الصغير، فالعدل أساس كل ملك. هذا هو الأساس الأول لصمود هيبة وهيئة الدولة. الأساس الثانى هو تعظيم استغلال الموارد والتغلب على العجز المزمن فى الموازنة وموازين التجارة، حتى يتوافر للحكومة الموارد والأدوات التى تمكنها من تقديم حلول مؤسسية جماعية للمشكلات، وتشبع مختلف الحاجات. وهذا الأساس لا يتم تمهيده إلا على قاعدة العدل ودولة القانون. ولا يمكن توفيره فى هذا الزمن بمعزل عن المشاركة بين القطاعين العام والخاص، مع زيادة الاعتماد على الاستثمار الأجنبى ــ فى حالتنا ــ للتغلب على فجوة الادخار الماثلة أساسا فى عجز الحكومة على الادخار مع استمرار عجز الموازنة العامة للدولة. الدين العام هو أيضا شبح يهدد قدرة الدولة على الاضطلاع بدورها تجاه مواطنيها وسكانها، إذ باتت خدمته تستنزف وحدها أكثر من ثلث موارد الحكومة... وهذا حديث متكرر لا أمل منه ويمكن الرجوع فيه إلى مقالات سابقة مازالت ظروفها قائمة. علما بأن عجز الموازنة مستمر فى التراجع وكذا عجز ميزان التجارة مع تحسن معدلات التضخم والبطالة بصورة ملحوظة وتقدم مصر فى تقارير التنافسية الدولية وممارسة الأعمال مع تحسن التصنيف الائتمانى بنظرة مستقبلية إيجابية لأول مرة منذ يناير ٢٠١١... تلك إشارة لابد منها لتعزيز الأمل فى قيام الدولة على أسس اقتصادية قوية حال الانتباه إلى فخاخ كثيرة ومنها الدولار الرخيص (موضوع مقال سابق).
أكتب هذه السطور من مطار كييڤ بأوكرانيا عائدا، بإذن الله، إلى أرض الوطن بعد الانتهاء من مهمة رسمية صاحبنى خلالها توفيق الرحمن. أشعر كأننى فى مطار القاهرة! إذ تعلو شاشات المطار رحلات عدة إلى الغردقة وشرم الشيخ والقاهرة.. ويتكرر النداء باللغة العربية، شىء قلما وجدناه فى مطارات أوروبا الأخرى. السائحون هنا يتطلعون بشوق لزيارة مصر الدافئة جوا ومجتمعا، يرونها كأفضل ما تكون الدولة، ولا يريدون زيارة أرض تسودها الحلول والحيل الفردية.