انتهى المدعوون من تناول الغداء الذى دعاهم اليه قس الكنيسة وبدأوا ينصرفون إلى أعمالهم تاركين القس فى المطعم ليدفع فاتورة الغداء. طلب القس الحساب من النادلة التى قامت على خدمته وخدمة ضيوفه. غابت دقائق وعادت تحمل فاتورة الحساب على صينية فضية أنيقة.
مد القس يده والتقط الفاتورة وأخرج نظارته من حقيبة يده الصغيرة التى يحمل فيها صليبه وكتابه المقدس. وضع نظارته على عينيه ونظر من تحتها إلى الفاتورة. قرأ القيمة المطلوب منه دفعها. تمعن فيها قليلا، ثم تطلع إلى النادلة التى وقفت إلى جانبه بغرض مساعدته فى القراءة إن احتاج مساعدة. نظر فى وجهها دون أن يعلق أما هى فردت نظرته بابتسامة متمنية أن يكون كريما معها فى نهاية الأمر.
عاد القس إلى حقيبة يده ليخرج منها دفتر الشيكات وقلم الحبر الجاف فتح الدفتر وأمسك بالقلم وكتب القيمة بالأرقام ثم أعاد كتابتها حروفا وفى أسفل الشيك وقع باسمه. تأدبا منها كانت النادلة قد ولت وجهها شطر النافذة زعما منها بأنها تراقب الطريق السريع الذى تتسابق فيه سيارات النقل والركاب. نتيجة هذا التأدب من جانبها ورغبتها فى أن يتأكد القس من أنها لا تنظر إلى الشيك والرقم الذى سطره فيه والتوقيع الذى دبجه به، فات عليها أن ترى القس وهو يمسك بالفاتورة ويكتب عليها عبارة من حروف وأرقام.
نهض القس من مقعده بعد أن أعاد النظارة ودفتر الشيكات وقلم الحبر الجاف إلى حقيبة يده، وتحرك ناحية باب المطعم ولكن بعد أن ترك على طرف المائدة الشيك وفاتورة الحساب. وعند الباب التفت إلى حيث انحنت النادلة لتلتقط الشيك والفاتورة وعلى شفتيه ابتسامة السعادة والرضا.
أخذت النادلة الشيك والفاتورة إلى مدير المطعم الجالس إلى مكتب صغير فى غرفة تطل على الصالة الكبيرة، واستدارت عائدة إلى عملها فى خدمة زبائن آخرين، فإذا برئيسها يستوقفها عاتبا عليها استلامها الشيك دون أن تتفحصه جيدا، ومؤنبا لها على أنها أخذت الفاتورة التى هى من حق الزبون وعلى أنها لم تنتبه إلى أن القس سجل عليها ملحوظة تتعلق بالنسبة التى يحصل عليها المطعم مقابل الخدمة. ألقى المدير بالفاتورة فى يدها لترى بنفسها ما سجله القس كتابة على الفاتورة أمام مبلغ يعادل نسبة 18٪ من قيمة الفاتورة يقرره صاحب المطعم بقشيشا واجب الدفع.
كتب القس الكلمات التالية: هل خطر ببالكم أننى يمكن أن أدفع نسبة 18٪ من قيمة الفاتورة “بقشيشا” لخدمة استغرقت من الزمن ساعة بينما أدفع “شرعا أوعرفا” نسبة 10٪ - العشور- لربى الذى خلقنى ويحمينى ويرزقنى ويرعانى لمدة تزيد أحيانا على سبعين أو ثمانين عاما.
•••
تأملت للحظة ملحوظة القس التى سجلها كتابة على فاتورة الحساب. وبعد قليل وجدت نفسى أعود إلى مناقشة إشكالية هى الآن محل جدل واحتجاجات وقضايا أمام محاكم فى مدن غربية عديدة. تتعلق الإشكالية بمصير البقشيش وهل يعود لصاحب المطعم يوزعه كما يشاء أم هو من حق العاملين. وإن كان من حق العاملين فهل يحل محل الأجر الثابت أم هو مكمل له. وإن كان يحل محل الأجر فهل يتعين أن يعرف الزبون فيفرض عليه البقشيش فرضا ولا يترك لتقديره ومزاجه؟.
•••
الإشكالية الأخرى التى لفتت انتباهى لها ملحوظة القس تتعلق بالعلاقة بين الدين والبقشيش. بمعنى أوسع، تتعلق بالعلاقة بين ما يتعين على المؤمن أن يدفعه لجهة دينية باسم الدين وبين ما يتعين أن يدفعه لجهة غير دينية ولكن أيضا باسم الدين. المؤمن، فى جميع الأديان، سماوية وغير سماوية، يدفع إجبارا أو اختيارا، لجهة الاختصاص الدينى عشرا أو خمسا أو ربع عشر من دخله أو من فائض دخله. يتصادف، وبخاصة فى أيامنا هذه، أن يختلط أو تتداخل جهات الاختصاص الدينى بجهات الاختصاص «البيروقراطى أو المدنى»، وبكلمات أكثر وضوحا، يتصادف أن تتولى جهة اختصاص دينى مسئولية إدارة شئون دولة، فى هذه الحالة هل يصح القول أن ازدواجا ضريبيا قد وقع؟. هل يحق للمؤمن أن يسأل: لماذا أدفع لربى ثم أدفع مرة أخرى لدولة الرب؟. هل يحق له أن يسأل: هل ما أدفعه فى هذه الحالة يذهب مرتين لربى أم يذهب مرتين لدولته؟
أو لعله سوف يسأل السؤال الذى يردده الآن ملايين المصريين: لماذا أدفع لربى الذى خلقنى ويحمينى ويرزقنى ويرعانى، ثم أدفع مرة أخرى لحكام ينطقون باسمه ويحتمون بظله ولكنهم يعذبوننى ويقتلون أبنائى ويقطعون أرزاقى.
•••
لماذا أدفع مرتين.؟