ما كادت قدمى تطأ مطار دبى، حتى استقبلتنى المدينة بوجهها الباسم المعتاد، الذى لم يزهد أبدا فى بذل العناية الفائقة لاستمالة الزائرين والزائرات، حتى بعدما تحقق للإمارة من مكاسب اقتصادية استثنائية، تصدرت بفضلها دولة الإمارات مراكز شديدة التقدّم فى تقارير التنافسية وممارسة الأعمال بمؤشراتها العامة والفرعية.
المرور عبر شباك الجوازات كان هادئا منظما، التأشيرة التى تلقيتها فى خلال ساعات عبر الإنترنت لم تستغرق ضابط الجوازات بضع ثوانٍ لتفحصها، وما إن فرغ من ختم جواز السفر حتى أطبقه على جسم كرتونى أزرق أنيق يشبه المسطرة! لم يحاول أن يشرح لى ماهيته، وبعدما تبينت حقيقته أدركت أن الرجل لم ينتظر أن أشكره على تلك الهدية الرمزية.
كانت الهدية، التى تلقيت مثيلا لها فى غير زيارة سابقة وسقطت من ذاكرتى، هى عبارة عن شريحة لخط محمول تحمل واحد جيجابايت من الإنترنت صالحة ليوم واحد. صحيح أننى لم أستخدمها خلال زيارتى القصيرة، لكنها كانت بادرة محترمة أثارت فى نفسى شجونا، ضاعف من حدتها الأحداث التى سبقت ولحقت الزيارة، والتى لن أرويها لكم عزيزاتى وأعزائى القراء على سبيل توريطكم فى مشكلة خاصة، بل لأن الحد الفاصل بين الخاص والعام يكاد يتلاشى فى زخم الدروس والعبر المستخلصة من تلك القصة الحزينة.
• • •
كنت لكثرة أسفارى أتعرّض لمبالغات كبيرة فى قيمة فاتورة خدمة الإنترنت للتجوال، كغيرى من المسافرين رفقة هواتفهم المحمولة بخطوطهم من الشبكات المصرية. منذ فترة طويلة، وبناء على نصيحة بعض العاملين فى تلك الشبكات، صرت أغلق خدمة تجوال الإنترنت على هاتفى المحمول قبل إقلاع الطائرة من مصر. عبثا كنت أفعل ذلك؛ لأن شركة الاتصالات كانت بكل أريحية تحاسبنى على تلك الخدمة بمجرد فتح هاتفى فى الدولة التى سافرت إليها! عند انتباهى لتلك المحاسبة الظالمة، وقليلا ما كنت أنتبه لتأخر إصدار الفاتورة، كان الأمر يتطلب شكاوى عدة لدى خدمة عملاء الشبكة المحترمة، ولم تكن المشكلة تحل أبدا إلا بعد التدوين على شبكات التواصل، وظهور أحد الأصدقاء النافذين فى شركة المحمول للتوصية متطوعا بحل المشكلة! يتم رد المبلغ المستقطع فى كل مرة، ولكن الأمر كان سخيفا، فأنا لا أحب الوساطة ولا أجد لها مسوّغا فى هذا الموقف، فالأمر واضح وصريح والخطأ من شركة المحمول متكرر لا يقبل التأويل.
عموما وقبل هذا السفر الأخير إلى الإمارات الذى أشرت إليه فى أول المقال، أقدمت على فعل خطير، خلاصته أننى وفى معرض سعيى إلى عدم الإثقال على صديقى ذى النفوذ، صدّقت أحد موظفى خدمة عملاء الشبكة، والذى أشار علىّ بإغلاق خدمة الإنترنت قبل سفرى عن طريق الاتصال بهم، وذلك على باب الطائرة، مع معاودة الاتصال لدى العودة لتفعيل الخدمة مجددا... لن أطيل عليكم فى تفاصيل وقف الخدمة التى اتخذت صورا غريبة من قبل متلقى الاتصال، منها وقف الباقة، ثم وقف الإنترنت ثم محاسبتى على تعريفة الإنترنت بطريقة الدفع لدى الاستخدام على الرغم من أن باقتى المدفوعة ما زالت سارية!.. المهم أننى سافرت وعدت بحمد الله، وفى مطار القاهرة تواصلت مع خدمة عملاء الشبكة كما سبق الاتفاق، لأكتشف أن «دخول الحمام ليس كالخروج منه».. كلما اتصلت بخدمة العملاء مررت بدقائق مملة من الاستماع إلى رسائل مسجّلة وأغانٍ سخيفة، واحتملت كل ذلك مرارا صاغرا لأستمع إلى رد شبه موحّد مفاده «معذرة يا فندم الشبكة بها تحديثات»! لا بأس لكن متى تنتهى التحديثات وكم تستغرق، لم أتلقَ إجابة واحدة على هذا السؤال بعد عدد لا يقل عن عشرين اتصالا طوال أربعة أيام كاملة منذ عودتى من السفر!!! طوال تلك الأيام كانت كل الحلول عبثية، لا أستطيع أن أفعل أى شىء، ولا حتى شراء أى باقة مؤقتة للعمل لحين تعافى النظام من حالة التحديثات التى يمر بها بالسلامة والتى لا يعرف مداها أحد إلا الله!.
تجربة الشكوى فى جهاز تنظيم الاتصالات كانت أكثر إيلاما، فالموظف المختص وبمجرد أن أستمع إلى كلمة السر «التحديثات» باغتنى بالقول: «للأسف طالما أن هناك تحديثات فلا نستطيع أن نتخذ أى إجراء تجاه الشركة وتلك سياسة الوزارة»! أو لو كانت الشركة تحيط المسألة كلها بالغموض؟! أو لو كانت تستهين بعملائها، فلم تخبرهم ولو عبر رسائل نصية بأن هناك «أعطال» (ولا نقول تحديثات)، وأن على العملاء الصبر على بلاء عدم تقديم أى خدمات لهم طوال تلك الفترة غير المعلومة؟!.. بل إن هذا الإجراء العجيب والذى أشك أن له نظيرا فى أى نظام تشغيل فى العالم، يستوجب فرض تعويضات تلقائية على الشبكة لكل العملاء، وكنت أحسب جهاز تنظيم الاتصالات كفيلا بالتعامل مع تلك المخالفات، التى بالتأكيد سوف تتحوّل إلى أعباء على القضاء المصرى، حيث أتصور أنه يتلقى ملايين الشكاوى من هذا النوع طلبا للتعويض العادل الغائب عن سياسة الجهاز فيما يبدو من رد الموظف.
• • •
هذه القصة القصيرة الحزينة تلخّص أهمية الخدمات المرتبطة بأحد أهم قطاعات الاقتصاد المعاصر، والذى تقوم على دعائمه وتتشابك معه كل القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى، خاصة بعد تواتر أحداث جائحة كوفيدــ19 وإغلاقاتها المتكررة، وبروز أهمية الاتصالات والمنصات على الإنترنت، كبديل لكثير من الأنشطة والأعمال. بل إن الاستثمار لا يستقر فى دولة اليوم، لو أنها تعانى من أزمات فى قطاع الاتصالات الخاص بها. حتى وإن كانت البنية الأساسية التى مهدتها الدولة جيدة ومتميزة وسابقة فى تطورها، فإن الخدمات المرتبطة بالاتصالات لا تقل أهمية عن الكابلات وصيانة الشبكات، وجودة الإشارة، وتكلفة الخدمة، وسرعة الإنترنت... فلرُب محروم من الإنترنت، لما يناهز الأسبوع، فى بلد يتمتع بكل مقومات البنية الأساسية للاتصالات، لمجرد أن الشبكة بها تحديثات، وأن خدمة العملاء لا تقدم خدمة حقيقية للعملاء، ولا توافق على تصعيد الشكاوى للمسئولين، بل ولا تراك كعميل أصلا طالما أن الشبكة رهن التحديث وبالتالى فملفك كله غير متاح!!
وإذا كانت مصر قد تقدمت خمسة مراكز فى مؤشر الإنترنت الشامل الصادر عام 2021 لتحتل المركز 73 بين 120 دولة؛ كما احتلت المركز الرابع على مستوى الدول الإفريقية الواردة فى المؤشر وعددها 29 دولة، فإن هذا التقدّم النسبى، على قلة أهميته بالنسبة لمكانة مصر وسبقها فى هذا المجال، يظل والعدم سواء لو أن الخدمات المقدمة لا تحظى بجودة التنظيم وسهولة التعامل وحوكمة الأداء.
فى لقائنا بالسيد رئيس مجلس الوزراء بمناسبة مناقشة وثيقة سياسة ملكية الدولة، أثير موضوع استقلالية المنظّم فى مختلف الأسواق، لضمان جودة المنتج الخدمى والحياد التنافسى بين مختلف الأطراف خاصة مع مشاركة أذرع مملوكة للدولة فى تقديم تلك الخدمات، وكان المثال حاضرا فى كل من تنظيم النقل والاتصالات والكهرباء. وفى هذا المقال أكرر المطالبة باستقلالية أجهزة تنظيم الخدمات وخضوعها ذاتها للرقابة من البرلمان، مع التأكد من عدم تعارض مصالحها أو تلاقيها مع أى من مقدمى الخدمات فى الأسواق. المستهلك خاصة كان مستثمرا أو سائحا يسجل مثل تلك التجارب التى شاركت لمحة منها معكم أعزائى القرّاء فى سجل لا يمحوه إلا لفتات طيبة وتحسّن ملحوظ فى مستوى الخدمات.
أما عن الشريحة التى تلقيتها من ضابط الجوازات بمطار دبى، فقد ادخرتها لسفرة لاحقة، بعدما فشلت فى تفعيلها للعمل فى مصر، لدى توقف الشبكة العريقة التى يتبعها هاتفى فى مصر، عن تقديم خدمة الإنترنت لى طيلة أربعة أيام والسبب «التحديثات»!.